حلب | شهران مرّا على دخول المقاتلين المعارضين حلب، بعد إحدى الساعات الصفر الكثيرة التي أعلنت لإسقاط النظام. تسلل آلاف المسلحين إلى المدينة، وغدت «حدود تركيا على مداخل حلب». تعبير ردده الحلبيون بعدما أصبحت الحدود السورية – التركية مفتوحة لكل عابر ومال وسلاح. التوتر بلغ أشده على هذه الحدود بقرار البرلمان التركي منح الحكومة تفويضاً لإجراء عمليات عسكرية في الخارج، في ما يتعلق بالشأن السوري.
ميدانياً، يقف آلاف المسلحين، ومعظمهم من أرياف حلب وإدلب والمحافظات السورية الأخرى، وبينهم نسبة وازنة من العرب والأجانب، في مواجهة قوات الجيش وحفظ النظام، في مدينة استوعبت وساكنيها صدمة تحويلها إلى ميدان قتال، وهي التي نأت بنفسها بغالبية مواطنيها عن التظاهر خشية وقوع المحظور الذي تعيشه في النهاية.
تنتشر مدينة حلب وضواحيها على مساحة تقدر بـ 800 كيلومتر مربع. وعلى عكس المدن الحديثة في العالم، تتميز بانتشارها الأفقي وبطابعها العمراني المميز؛ إذ إن معظم أبنيتها بارتفاع خمس طبقات، وتكاد تخلو من الأبنية البرجية لولا مبنى القصر البلدي الذي يرتفع نحو ثلاثين طبقة، الذي تحولت واجهته الجنوبية إلى هدف سهل لرشاشات المسلحين وقذائفهم.
في آواخر تموز الماضي، وبعد أسابيع من ظهور مسلح رافق التظاهرات المناهضة للسلطة بقصد «حمايتها»، وكثيراً ما كان فخاً لاستهداف قوات حفظ النظام، قرر المسلحون نقل المعارك إلى حلب، وتمكنوا من السيطرة على عدة حواجز مؤدية إلى المدينة، ولا سيما في القطاعين الشمالي والشرقي، في قوس يمتد من صلاح الدين في الجنوب الغربي وحتى الحيدرية في الشمال الشرقي. ويشمل جزءاً كبيراً من المدينة القديمة التي تضم الأسواق الشهيرة.
استرد الجيش النظامي أحياء صلاح الدين، ثم الأعظمية وغالبية سيف الدولة، الإذاعة الجديدة، السيد علي، الميدان، سليمان الحلبي، العرقوب وباب الله. ودخل أطراف الصاخور أخيراً، بعدما سيطر على دوار الصاخور وهو عقدة مرورية في غاية الأهمية تصل مركز المدينة بالمطار، وشمال المدينة بشرقها. وهو طريق إمداد رئيسي للمقاتلين المعارضين، الذين تعود نسبة كبيرة منهم إلى مناطق ريفية تقع شرقيّ المدينة وشماليّها، أهمها الباب ومارع وتل رفعت وعندان. وينتشر المسلحون حالياً في قوس المدينة، الذي يضم أحياء السكري، الفردوس، الصالحين، المغاير، المرجة، بستان القصر، الكلاسة، قصيلة، المدينة القديمة، كرم القاطرجي، كرم حومد، الميسر، الشعار، طريق الباب، مدينة هنانو، الحيدرية، الهلك، بستان الباشا، بعيدين. وهي مناطق شعبية مكتظة بالسكان. وتضم معظم عشوائيات حلب الـ 17، التي تتميز بشوارعها الضيقة وأبنيتها المخالفة. وتتركز المعارك على تخوم أحيائها المواجهة للمناطق الآمنة، فيما تستخدم مناطقها الجنوبية والجنوبية الشرقية لمهاجمة حواجز الجيش المنتشرة على المحلق الجنوبي المحيط بالمدينة. وتعرضت أبنيتها، بما فيها الحكومية التي تحولت إلى مراكز للمسلحين وعتادهم، لدمار متفاوت نتيجة المعارك والقصف المدفعي والجوي، حيث قضى الكثير من الأبرياء نتيجة ذلك، إلى جانب أعداد كبيرة من المسلحين تقدر بنحو أربعة آلاف مسلح، وذلك منذ إعلان معركة تحرير حلب. ويشعر سكان المدينة بمزيج من الغضب والمرارة، ما دفع بعضهم إلى تقديم معلومات عن تحركات المسلحين ومواقعهم اتقاءً منهم لأخطاء القصف ولتسريع عملية استرجاع الاستقرار والأمن.
أسبوعان مرّا على بدء «الحسم» الذي أعلنه المسلحون المعارضون، والذي ترافق مع قصف بالهاون والصواريخ المحلية الصنع لمراكز أمنية لم يصبها إلا نادراً، وذلك بالتزامن مع هجمات عنيفة في جميع خطوط التماس بين الطرفين، أدت إلى خسارة الميليشيات بعض المناطق.
وأخيراً ارتفعت أصوات المعترضين على المسلحين واتخاذهم محالّ ودوراً للمواطنين مقارّ لهم. ففي حيّ الصاخور أدى خلاف الأهالي مع مسلحين من عشيرة الفراهدة إلى نزوح جماعي بعد إصرار المسلحين على التمركز في أملاك خاصة، يعتقد الأهالي أنها ستقصف بكل تأكيد. وفي مقابل حركة النزوح من الأحياء المتوترة، فإن حالة الأمان التي ينعم بها ثلثا المدينة تقريباً يخرقها قصف بمدافع الهاون، وبالأخص في أحياء الميدان والسليمانية، وأخيراً في حلب الجديدة، حيث تستهدف مراكز أمنية برمي يعوزه الدقة، إذ إن أغلب ضحاياه من المدنيين. وامتد نطاق الرمي بالهاون والصورايخ المحلية الصنع ليشمل المناطق القريبة من القصر البلدي وسوق الهال والأعظمية والفيض حيث تتمركز آليات عسكرية.
ولعل حيي الميدان والسليمانية وجوارهما هما الأكثر تضرراً من قذائف المسلحين، حيث بلغ عدد الضحايا نحو 40 قتيلاً من المدنيين وأكثر من 250 جريحاً.
مداخل حلب الثلاثة الرئيسية تتنازع السيطرة عليها فصائل المعارضة مع الجيش السوري، الذي يسيطر على مدخل حلب الجنوبي تماماً، في مقابل سيطرة للمسلحين على المدخل الشمالي، وتلك المؤدية إلى معظم البلدات والقرى الشمالية والغربية. في المقابل، جرى تأمين طريق الراموسة – المطار، الذي يمتد إلى دير حافر فالرقة، وسبق أن تعرض لهجمات استهدفت قوافل الوقود بغية السطو عليها أو تدميرها. ويتمكن المسلحون من نصب حواجز طيارة بين الحين والآخر بين دير حافر ومسكنة شرقاً، حيث تسلك هذا الطريق القوافل القادمة من السلمية عبر البادية، الذي أصبح طريقاً بديلاً آمناً لأوتوستراد حلب ــ حمص.ويشير نديم، وهو مدني يحمل رتبة نقيب في «الجيش الحر»، إلى أن «الحسم في حلب سيكون أسرع مما ينتظر الثوار، لأنه زُجّ بكتائب وألوية من كل المحافظات، والإمداد بالسلاح والرجال لا يتوقف، كذلك قرر البرلمان التركي الرد على العدوان السوري». في المقابل، قال أحمد، وهو شاب انضم حديثاً إلى الجيش الحر: «لا نستطيع أن نحرر حلب كلها، ولا يستطيع النظام أن يحتلها كلها». وأضاف: «معنوياتنا عالية، رغم خذلان العالم كله لنا، ومؤامرته على الجهاد والثورة في سوريا». ويعترف بعض قادة المسلحين بأزمتهم. فزخم دخولهم حلب تلاشى، بالأخص بعد خسارتهم صلاح الدين وعجزهم طوال أكثر من شهر بعدها على كسب المزيد من الأحياء. وهم إن سيطروا على بستان الباشا وسليمان الحلبي والميدان، فقد فقدوا معظمها، فضلاً عن مناطق أكثر بعد ذلك.
يتكتم المسلحون على خسائرهم في المعارك اليومية، التي يؤكد مصدر مقرب منهم أنها تتجاوز في بعض الأيام مئة قتيل. وفي معارك نوعية استُهدفت مراكز حيوية فيها، كمركز البحوث العلمية، وفرع الاستخبارات الجوية ومدرسة الشرطة سقطت أعداد أكبر بين قتيل وجريح. المصدر رأى أن ذلك أثر على سير العمليات، فالسيطرة على حي وتحريره يتطلبان أعداداً أكبر من «المجاهدين».
في المقابل، يقول مصدر سوري رسمي لـ«الأخبار» إن تعزيزات إضافية ستصل تباعاً إلى حلب لحسم معركة المدينة، وتطهير أحيائها من الجماعات المسلحة. ويشير المصدر إلى أن الجيش السوري يعتمد على أسلوب الإنهاك وجمع المعلومات واستهداف التجمعات ومواقع القيادة ثم قضم الأحياء، شارعاً تلو آخر، مع تكبيد المسلحين خسائر فادحة عبر القصف المركز.
ويقول جندي من قوات النخبة: «منذ شهرين وأنا في حلب يطلقون النار علينا من بعيد، ويعتمدون على القناصة». ويضيف: «بمجرد تقدمنا يفرون إلى مناطق خلفية، قلما نشتبك معهم وجهاً لوجه، إلا في حالات التطهير وانقطاع الإمداد عنهم، أو هجومهم بأعداد كبيرة جداً حيث يقعون تحت مرمى نيراننا».
ويقول آخر: «نلمحهم في الحواجز المقابلة لنا، يطلقون النار بعشوائية وغزارة ويختبئون في البيوت القريبة منهم، التي نقبوا جدرانها لتسهيل هروبهم».
ووسط هذه المعارك، تمكن الجيش السوري في الأيام الأخيرة، من السيطرة على حي العامرية وتل الزرازير في الجنوب. وفي الشرق تابع تقدمه نحو دوار الصاخور المؤدي إلى المطار وحي الشعار، طريق الباب الذي يعتبر أحد أقوى معاقل المسلحين.
في المقابل، أعلن الجيش الحر سيطرته على حيّ الشيخ مقصود الذي تقطنه نسبة مرتفعة من الأكراد، وتبين أن محاولة اقتحام الحي لم تنجح إلا في خطف بعض عناصر اللجان الشعبية، مع محاولات مستميتة لاسترجاع سليمان الحلبي والعرقوب والعامرية والإذاعة وصلاح الدين، حيث بثّ ناشطون معارضون أشرطة تظهر عناصر «الجيش الحر» في دوار صلاح الدين. أما ثكنة هنانو، التي يفتخر الحرس الجمهوري بتحريرها من دون خسارة أي جندي، فقد تحولت إلى هدف دائم لهجمات المسلحين، وآخرها يوم الأحد الماضي، حيث تكبدوا خسائر فادحة رغم تقدمهم في البداية وسيطرتهم على تخومها.



«حقد طبقي»


يبلغ عدد سكان مدينة حلب نحو 2.5 مليون نسمة، وهي أكبر مدينة سورية، فيما يبلغ عدد سكان المحافظة كلها نحو 6.5 ملايين. وقفت بنخبها الصناعية والتجارية ضد إسقاط النظام ومع الإصلاح التدريجي. ويسود في أوساط الكثير من أبناء حلب اعتقاد بأن ما يجري في مدينتهم هو عقوبة لها على موقفها الوطني.
ويرى قسم من هؤلاء أن المسلحين القادمين من الريف لتحرير حلب يحملون حقداً طبقياً على المدينة الغنية.
وتقطن الريف شرائح متنوعة يمكن إجمالها في ثلاث فئات، الإثنيات غير العربية وأهمها الأكراد، العشائر، وبقية السكان. وتميل الفئتان الأولى والثانية إلى مهادنة السلطة وعدم الرغبة في إسقاط النظام، فيما تنتشر في الثالثة حواضن للفكر السلفي والإخواني، لتشكل الخزان البشري للمقاتلين.