في مخيم بلاطة للاجئين، وخلال الحرب الوطنية العظمى لتحرير قبر يوسف من الاحتلال الصهيوني في قلب مدينة نابلس، يدعي الاسرائيليون ان النبي يوسف مدفون هناك، قرب مخيم بلاطة، وقرب بئر يعقوب الوارد ذكره في «العهد الجديد» وقصة يسوع مع المرأة السامرية. انطلقت قوات الشباب من المخيم مسلحة بالكلاشنكوف ومختلف أنواع الرشاشات، لكي تطلق النار ابتهاجاً بأول اشتباك فعلي بالرصاص مع جنود الاحتلال. ومن ضمن اللقطات الي حفرت بذاكرتي في بداية الانتفاضة الثالثة، انتفاضة «الأقصى»، كانت لأحد الشباب الذين كاناو يحملون رشاشاً اكتشفت في ما بعد أن اسمه «شمايزر» ولست متأكداً من صحة الاسم ودقّته. كان يحمل رشاشه ويستند إلى قاعدة حديدية ملحومة بباب محل تجاري تستخدم لوضع الهواتف التي تعمل بالقطع النقدية على باب المحل.
المحل التجاري كان مغلقاً بسبب الاشتباك، الشاب كان في نهاية العشرينيات يرتكز حتى يثبت، وثم يطلق النار على قوات الاحتلال. وخلال لحظة كنا نختبئ وننتظر هدوء الاشتباك لاشعال المزيد من النار في الاطارات والاخشاب، ثم نلقيها في داخل المقام.
انتبهت للشاب وقد انحنى ليستخرج مخزنا للطلقات «باغا» من حقيبة صغيرة كانت على الأرض، انحنى الشاب ليستخرج المخزن، فإذا برصاصة تستقر في الباب الحديدي مكان رأسه! ولما انتبه الشاب للرصاصة، بدأ يكيل السباب والشتائم من العيار الثقيل، وبعصبية شديدة للجيش الصهيوني. ثم اسرع في تعبئة المخزن للرد على مصدر الرصاصة. وعندما رفع رأسه استقرت رصاصة أخرى في المكان نفسه! كان المنظر مذهلاً: لم استطع تمالك نفسي فصرخت بالهتاف الخاص بنا «غير ملائمة للنشر»! وبدأ يطلق النار بصورة جنونية عليهم، ثم امتد الاشتباك حتى انسحاب قوات الاحتلال من المقام. وقد أعلن عن تحريره بالعلم الفلسطيني المرفوع على قبته، وصورة «بورتريه» كبيرة للرئيس ياسر عرفات. هذا المشهد بقي عالقاً في ذهني حتى أني أعدت قراءة قصة غسان كنفاني «زمن الاشتباك». وقفت عند هذه العبارة مئات المرات «أما في الاشتباك فإنه دائماً على بعد طلقة. أنت دائماً تمرّ بأعجوبة بين طلقتين».
هذا الشاب يعمل على عرباية في المخيم وقائدا للمشجعين في مباريات نادي مخيم بلاطة يبيع مختلف المنتوجات الطبيعية المسروقة من مزارع المستعمرات كالمانجو والأفوكادو والألبسة في مواسم الأعياد والمدارس.
ولكنه تحول لأسطورة رسخت في ذهني إلى الأبد وتجسيدا للعبارة التي أوردها كنفاني في قصته...
العديد من أجيال السلام المستمر لم ولن يفهموا ما جرى حتى لو حفظوا الأعمال الكاملة لغسان وأدباء الثورة... لن يفهموا ما جرى! لأنه كما قال غسان: لن تفهم. فذلك كان في زمن الاشتباك.