حلب ــ لم يتأخر تجار وقاطنو المناطق المحيطة بساحة سعد الله الجابري في الترميم الفوري للأضرار التي لحقت بمتاجرهم ومكاتبهم. أصرّوا على الاستمرار في كسب عيشهم، في وقت ألمّت فيه المحن بالاقتصاد السوري، وخصوصاً الحلبي، بسبب العقوبات الغربية وإغلاق المعامل والورش نتيجة انتشار مسلحي الميليشيات، واستهداف الصناعيين والشحنات التجارية وإمدادات الوقود. ورشات مجلس مدينة حلب والدفاع المدني تابعت إزالة الأنقاض التي خلفتها الهجمات الدموية يوم الأربعاء، وأعادت وصل التيار الكهربائي للمنطقة مساء اليوم نفسه. نهضت المدينة تلملم جراحها صباح اليوم التالي. في الجميلية، غرب الساحة، اكتظاظ المتسوقين أغرى آخرين للسير نحوها لاستطلاع ما خلفته الهجمات الانتحارية. أما العابر في شارع بارون الشهير، فلا يكاد يسمع سوى أصوات ألواح الزجاج تتكسر، يكنسها العمال لتغدو أكواماً إلى جانب الأرصفة، فيما تعمل آليات مجلس المدينة على ترحيلها مع الأنقاض.
آلاف الأمتار المربعة من الزجاج المتطاير، جُمِّعَت على جوانب الطرقات، حتى غدا شكلها لافتاً. مكاتب الطيران، شركات الصيرفة، والمتاجر، والمطاعم، شُغل أصحابها مع ورش الترميم، في تنظيفها وإصلاح ما تخرّب فيها.
يعيد فراس عقاد تركيب ألواح زجاجية للمرة الثانية، فسبق أن تحطّم زجاج متجره عندما انفجرت عبوة ناسفة على الرصيف المقابل.
عبد الرحمن قباني، يعمل في شركة شحن تبعد نحو 200 متر عن مكان التفجير، انتهى من تنظيف المكتب من الزجاج والغبار، وقال: «حلب تعاقب على وطنيتها، ورغبتها في الإصلاح التدريجي ورفضها الفتنة والفوضى». ولا ينسى قباني، النازح من بيته، أن يصيب السلطة بسهام نقده «أحيّي تضحيات جيشنا، لكن الحكومة مقصرة بحق حلب، التي تحملت الإهانات والشتائم وخُطف أبناؤها، ولم تكن على مستوى التحديات وأسهمت في إغضاب المواطنين بتقصيرها».
في موقع التفجير، وقف الفنان التشكيلي، ناصر نعسان آغا، باكياً على أطلال مقهى جحا، حزناً على الضحايا وما آلت إليه المدينة. اقترح على أصدقائه شرب قهوتهم في نفس الموعد في المقهى الذي انهارت حجارة بنائه الأثري. وقال لـ«الأخبار» إنّ «ما جرى مهول، دموية واعتداء على المدنية والذاكرة، هنا قلب المدينة تلقى خنجراً»، لافتاً إلى أنّ المقهى «هو حالة فريدة، إذ يجتمع فيه أصدقاء ومثقفون وفنانون، من كل التيارات الفكرية والخلفيات، ترى فيها نسيج المجتمع بألوانه أكثر انسجاماً».
بدوره، سارع محمد غزال، الخبير الاقتصادي، إلى إجراء جولة لرصد ردود الأفعال. ويروي مبتسماً: «صباح مدهش في حلب، إصرار إنساني بديع على الحياة والعمل ورفض الموت والإرهاب، هذا الأمر عزّ نظيره في العالم، هذه هي حلب على حقيقتها، مدينة لإعلاء قيم العمل والإنتاج والمدنية». وأضاف: «إصرار الناس على العمل والحياة، جعلني أكثر تفاؤلاً بقيامة سوريا وتجاوزها لهذه المحنة والحرب الغربية الرهيبة لتدميرها كدولة، وشعب وتراكم عمره آلاف السنين». تكاد تجمع الفعاليات الاقتصادية، وقسم كبير من الرأي العام، على أنّ ما يجري في حلب هو عقوبة لها على موقف غالبيتها من الأزمة. ويشير بعضهم بإصبع الاتهام إلى تركيا التي ترى في حلب منافساً تاريخياً، فيما يذهب آخرون للقول إن لتركيا أطماعاً في حلب لجعلها سوق لتصريف المنتجات التركية، مع شعور بالغضب على النظام الذي لم يحمها كما يجب.
ويضفي محمد جابري، مالك مؤسسة تجارية، جرعة أمل على حديثه ويقول: «هذا قدرنا لنبقى صامدين، أنا حلبي ولكن عراقي الأصل. أبكي العراق وسوريا، سنصلح ما أفسدوه، وسنقاوم الموت، وطننا جميل ومعطاء لنحافظ عليه ونحميه».
أما محمد زكريا، صاحب مكتب ترجمة، فرأى أن الحكّام العرب وتركيا يقفون خلف ما يجري في سوريا، وحلب تحديداً، لأنها آخر أوراقهم، خدمة لإسرائيل وأميركا. أما جورج، تاجر الأدوات الطبية، فيرى أن «النظام مقصّر، ولم يتعامل بحزم شديد مع المسلحين في حلب كما فعل في دمشق، ولم يتمكن من حماية المدينة وتجنبيها الخسائر، بعد أن تحول ريفها إلى بؤر يتجمع فيها المسلحون من بقية الأرياف ومن خارج سوريا».
أيام قليلة ويعود الوسط التجاري للمدينة إلى سابق عهده. لكن معظم المواطنين يتساءلون متى ستنتهي المعارك لكي يعودوا إلى بيوتهم آمنين.