بغداد ــ عند التجوال اليومي في مناطق العاصمة بغداد وأحيائها، تحت أشعة شمس لاهبة وطقسٍ اعتاد العراقيون غبرته خلال السنوات الماضية، يمكن تلمّس مدى السخط الشعبي على تردي واقع الطاقة الكهربائية في العراق. وبعدما شهدت البلاد، خلال فصل الصيف في الأعوام الماضية، اندلاع احتجاجات «شيعت» الكهرباء في توابيت الموتى، صدرت وعود وطمأنات عن وزير الكهرباء آنذاك بمعالجة هذه الأزمة المزمنة. لكن وزارة الكهرباء المركزية، لم تفشل فقط في معالجة الأزمة، بل إن معدلات تجهيزها اليومي للطاقة تراجعت مقارنةً بصيف العام الماضي. أمام هذا الوضع، تحولت الشوارع في الأحياء البغدادية إلى أشبه ما تكون بنسيج عنكبوتي مشوّه نتيجة لتداخل أسلاك المولدات وتشابكها في هذه الأحياء. فالحكومة ارتأت حلاً «ترقيعياً» تمثّل بتقديم الوقود مجاناً لأصحاب المولدات الكهربائية، في محاولة منها للتخفيف من حدة السخط الشعبي. لكن هذا الدعم فتح المجال أمام أي مواطن لنصب مولد عملاق أمام منزله، والشروع بمد الأسلاك إلى المنازل والمحال المحيطة بصورة عشوائية.

وزارة «توهم» مواطنيها

أزمة الكهرباء في العراق تعود إلى فترة ما قبل الاحتلال الأميركي، عندما كانت البلاد تنتج ما يقارب 4300 ميغاواط. حينها، كانت جميع المحافظات تعاني شُحّ التجهيز بالطاقة، باستثناء العاصمة بغداد. النظام السابق كان آنذاك يعمل على رفد العاصمة بالكهرباء عبر الاستقطاع من حصص باقي المحافظات، إلا أن هذه النسب من الانتاج قد تراجعت الى 300 ميغاواط، نتيجة للأضرار التي خلفتها حرب الخليج الثانية على البنى التحتية والمنشآت الكهربائية والنفطية.
عقب انتهاء الحرب، باشرت دائرة التخطيط والدراسات التابعة لوزارة الكهرباء الاتحادية، بتحديث الخطط القديمة التي وضعتها بالأصل شركات أجنبية لزيادة انتاج الكهرباء، اذ كان من المفترض أن تضاف قدرات انتاجية تصل نحو 13000 ميغاوط، ولتغذي عموم البلاد. وبناءً على تلك الخطط، باشرت الوزارة على عجالة بالتعاقد مع جهات منفذة، حتى إن آلية ابرام هذه العقود كانت تتجاوز ضوابط العقود الحكومية، بحسب وثائق زودتنا بها لجنة النفط والطاقة في مجلس النواب العراقي.
تلك المشاريع، التي بوشر العمل فيها فعلياً، خلال عام 2007، انطلقت ضمن محورين: الأول يتمثل بنصب مولدات ومحطات بخارية وغازية جديدة. وأبرز الشركات المجهزة هي Hyundai، حيث كان من المقرر أن تنصب 12 محطة في 9 مواقع في عموم البلاد، شركة SIEMENS، بالاضافة الى عدد من الشركات الأخرى.
أما بالنسبة إلى المحور الثاني، فهو متمثل بإعادة تأهيل جميع المحطات البخارية والغازية القديمة المنتشرة في العراق.
الحكومة الاتحادية في بغداد، كانت قد طمأنت في وقت سابق، إلى أن القدرات الإنتاجية ستصل في نهاية هذا العام الى 19476 ميغاواط، في حين أن الطلب الكلي لا يتجاوز 16100 ميغاواط، أي بزيادة تصل إلى 3176 ميغاواط. وزارة الكهرباء، ذهبت أبعد من ذلك في تفاؤلها آنذاك، من خلال تأكيدها أن القدرة الإنتاجية ستصل في عام 2015 إلى 23640 ميغاواط، أي بزيادة مقدارها 4140 ميغاواط، عن الاستهلاك الوطني، بما في ذلك استهلاك اقليم كردستان.
إلا أن الخيبة، كانت كبيرة جداً، اذ إن القيمة الفعلية لإنتاج البلاد لم تتجاوز هذا العام 7000 ميغاواط، علماً بأن هناك ما يقارب 1000 ميغاواط تُستورَد من إيران، فيما يتولى اقليم كردستان إنتاج ما يقارب 1500 ميغاواط، ما يعني أن الإنتاج الحقيقي لوزارة الكهرباء الاتحادية لم يتجاوز 4500 ميغاواط.
عضو لجنة النفط والطاقة في مجلس النواب، فرهاد الاتروشي، أوضح أن هناك الكثير من الأسباب التي حالت دون الوصول إلى معدلات الاكتفاء الذاتي من انتاج الطاقة الكهربائية. وأوضح النائب عن التحالف الكردستاني أن «العقود التي أبرمتها وزارة الكهرباء الاتحادية بشأن انشاء محطات جديدة، لم تنجز بسب تلكؤ وتسويف تتحمله الجهات المنفذة لهذه المشاريع». ورأى أن الذي زاد من اتساع هذا التلكؤ، هو «تساهل» الوزارة والحكومة في محاسبة هذه الجهات المقصرة.
وأوضح الأتروشي أنه، بطلب من وزارة الكهرباء، خُصِّصت أموال لإعادة تأهيل عدد من محطات إنتاج الطاقة القديمة، وذلك لرفع مستوياتها الإنتاجية، إلا أن القدرة الإنتاجية لهذه المحطات قد تراجعت بعد إجراء عمليات الصيانة المزعومة من قبل الوزارة.
هذا الإحباط على صعيد ملف الكهرباء مضافاً إليه التخوف من تجدد الاحتجاجات الشعبية، دفع مجلس النواب خلال شهر شباط من العام الجاري إلى مناقشة تقرير، حصلت «الأخبار» على نسخة منه، تضمن أسباب الإخفاقات، والحلول المقترحة لتجاوزها.
وفي الوقت الذي دعا فيه التقرير إلى «استضافة» عاجلة لوزير الكهرباء في البرلمان، كُتب في صفحة «استنتاجاته» أن «وزارة الكهرباء كانت تعمل على القفز فوق الأزمات، كذلك فإنها أوهمت الشعب العراقي بالكثير من الوعود، وذلك من خلال التدليس على الحكومة العراقية». التقرير توصل إلى هذه الاستنتاجات من خلال «التضارب بين التصريحات التي يدلي بها المسؤولون في كل من الوزارة، ورئاسة الوزراء، وفي أكثر من مرة».

«لعب أطفال» بـ10 ملايين دولار

يحتل العراق، بحسب تقارير المنظمات دولية، المراتب الأولى على لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم. السبب في ذلك يعود إلى تنامي الإيرادات المالية المتأتية من ارتفاع صادرات البلاد للنفط، مقابل مؤسسات وقوانين حكومية غير قادرة على استيعاب هذه الإيرادات الضخمة. انطلاقاً من هذا التصور، يصبح بالإمكان فهم البيئة التي تعمل وزارة الكهرباء العراقية ضمنها. وقد بات من المسلم حالياً على الصعيد المحلي، أن هذه الوزارة هي إحدى أكثر الوزارات «استنزافاً» للمال العام الذي يهدر من دون تحقيق تقدم ملموس. ويضج العراق بالعديد من الروايات عن «العقود الوهمية»، إلا أن أكثرها لفتاً للنظر، كانت تلك التي سردها عضو لجنة «النزاهة» البرلمانية، النائب عن ائتلاف دولة القانون، عمار الشبلي. الأخير ذكر أن وزارة الكهرباء وقّعت عقداً بقيمة 10 ملايين دولار لاستيراد عدد من المعدات لمحطاتها التوليدية، إلا أن الجهات الرسمية العراقية التي توجهت الى ميناء دبي، مكان تسلّم المعدات، فوجئت بأن معداتها لم تكن أكثر من «لعب أطفال بلاستيكية»، ما يعني أن العراق قد دفع ملايين الدولارات مقابل حمولة بلاستيكية. أمام هذه المبالغ الضخمة، يطرح تساؤل مشروع، هو: كم أنفق العراق منذ عام 2003 وحتى الآن على قطاع الكهرباء؟

ثلاثة مصادر للإنفاق

أظهرت وثائق حصلت عليها «الأخبار» أن وزارة الكهرباء استحصلت على الدعم المالي خلال السنوات الماضية من ثلاثة مصادر. الولايات المتحدة أسهمت بدعم هذا القطاع مالياً، عبر صندوق تنمية العراق «DFI»، الذي أُسِّس عقب غزوها للعراق. المصدر الثاني كان عبارة عن منح وهبات قدمتها دول أجنبية ومؤسسات دولية للدفع بعجلة الطاقة في البلاد إلى الأمام. أما المصدر الثالث والرئيسي، فهو التخصيصات المالية التي رصدتها الحكومة المركزية للوزارة منذ عام 2003 وحتى الآن، ليصل إجمالي ما صرفته الوزارة إلى قرابة 40 مليار دولار، نصفها تشغيلي والآخر استثماري. لكن هذا المبلغ ليس الرقم النهائي لمجموع ما صرفه العراق على قطاع الطاقة الكهربائية.
استناداً إلى وزير المال، رافع العيساوي، بلغت «صرفيات العراقيين 80 مليار دولار»، على مولداتهم الخاصة واشتراكات مولدات الأحياء.
هذا الأمر يعني أن الطاقة الكهربائية كلفت البلاد (حكومة وشعباً) 120 مليار دولار، أي إن المجموع يعادل عشرة أضعاف ميزانية البحرين البالغة 5.5 مليارات دولار، وأكثر من ميزانيتي الكويت والإمارات مجتمعةً بكثير.
هذه المبالغ، بحسب المختصين، تكفي لـ«شراء أصول شركة جنرال إلكتريك بكل فروعها، وخطوطها الإنتاجية تغطي تكاليف نقلها إلى بادية السماوة، أو إلى هور العمارة. أما الباقي من المبلغ فيكفي لشراء شركتي سيمنز الكترونك و ميتسوبيشي باور». وأعلنت الوزارة الاتحادية في وقت سابق امتلاكها 7 مليارات دولار محجوزة حالياً لدى صندوق تنمية العراق DFI في واشنطن.
الوزارة تدافع عن نفسها
الوزارة التي تقع في جانب الكرخ من العاصمة بغداد، كان من اللافت للنظر أنها مسيّجة بجدران إسمنتية عالية، ولم يعد متاحاً سوى منفذ وحيد للدخول إليها.
المتحدث باسمها، مصعب المدرس، كانت ملامح الأمل بتحسين واقع الطاقة بالبلاد واضحة عليه. وبرر المدرس التلكؤ في تنمية الطاقة الكهربائية في البلاد، بأن «صناعة الكهرباء صناعة معقدة وليست بسيطة، حيث إن النهوض بهذا القطاع بحاجة إلى تعاقدات مع شركات مختصة لديها باع طويل في إنتاج الطاقة ومد شبكات النقل
وتوزيعها».
وأكد حاجة وزارته إلى دعم باقي الوزارات كالنفط والداخلية ووزارة الموارد المائية، متسائلاً عن «فائدة بناء وزارة الكهرباء لمحطة توليد من دون أن يوفر لها الوقود؟»، وهو ما أضطر الوزارة إلى أخذ مسؤولية شراء الوقود وتوفيره على عاتقها.
كذلك تحدث عن أن التلكؤ في إنتاج الطاقة يعود أيضاً إلى عدم وجود ضوابط لاستيراد الأجهزة الكهربائية المنزلية.
وأوضح المدرس أنه «قبل عام 2003 كان جهاز التقييس والسيطرة النوعية لديه ضوابط لاستيراد هذه الأجهزة»، أما الآن «فإن التجار يستوردون هذه الأجهزة من مناشئ غير مرخص لها وتستهلك الكثير من
الطاقة».
وأورد المتحدث باسم الوزارة سبباً آخر للتلكؤ، يتمثل في بناء المنازل السكنية بصورة عشوائية، حيث إن الكثير من الأحياء قد شيدت بعد عام 2003 على أراضٍ صفتها «زراعية»، وغير مسموح بتزويدها بالكهرباء الوطنية، الأمر الذي دفع ساكني هذه المنازل إلى التجاوز على منظومة الكهرباء، وبالتالي تحميلها زيادة فوق قدرتها.
وكشف المدرس عن وجود ثقل كبير على كاهل الوزارة، مستدركاً: «تلمسنا خلال الآونة الأخيرة، جدية حكومية مع الوزارة ونية لتوفير جميع مستلزمات حل الأزمة، وذلك من خلال منحنا صلاحيات أكبر للتعاقد، واختزال الضوابط».
الا أن النقطة الأبرز، التي أشار إليها المدرس تتعلق باستمرار رضوخ البلاد لطائلة الفصل السابع. ويحدَّد للعراق مصرف واحد من صلاحياته منح الضمانات المصرفية للشركات المستثمرة بطريقة الدفع بالأجل، وهو «المصرف العراقي للتجارة». هذ الأمر حدد إبرام الكثير من التعاقدات مع الشركات الأجنبية المستثمرة. إضافة الى ذلك، فإن هذا المصرف تملص في بعض الأحيان من التزاماته لتوفير هذه الضمانات، على حد تعبير وزارة الكهرباء.
وفي السياق، أوردت الوزارة، حادثة جرت خلال عام 2011، عندما قام وفد كبير برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي، ضم مستشاره لشؤون الطاقة حسين الشهرستاني ووزير الكهرباء، بزيارة كوريا الجنوبية لغرض التعاقد مع إحدى الشركات التي كان يؤمل أن تزود البلاد بوحدات توليد كهربائية من شأنها أن تضيف 6000 ميغاواط إلى المنظومة الوطنية بغضون ستة أشهر. لكن بعد انتهاء المفاوضات بين الطرفين، اعتذر المصرف عن عدم تقديم أي ضمانات مصرفية لهذه الشركة، متحججاً بأن مبالغ العقد كبيرة.



خلل في التطوير

بعيداً عن وجهة نظر الوزارة، والمواقف التي تتهمها بالفساد الإداري والمالي، أكد المحلل الاقتصادي، ليث محمد رضا، وجود «خلل فني» في الكيفية التي تعمل على أساسها الوزارة لتطوير واقع الطاقة في البلاد. رضا أوضح أن الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ الاحتلال الأميركي للبلاد،
تعتمد منهجية غير رشيدة في توفير الطاقة الكهربائية، «بإصرارها على التعاقد لشراء محطات توليد غازية»، لكون هذا النوع لا ينفع مع البيئة العراقية. ولفت إلى أنه «لا يصح الاعتماد عليها كمحطات أساسية في أي مكان بالعالم»، في إشارة إلى التباين في الأحوال المناخية بين العراق والدول المنتجة لهذه المعدات، ولا سيما تلك الأوروبيّة.
وأوضح رضا أن «المحطات الغازية المعمول بها الآن تتوقف كلياً عندما تصل حرارة الطقس إلى 45 درجة مئوية، لأنها مصممة للعمل في درجة حرارة تراوح ما بين 15-25 درجة مئوية، ما يعني أنها شبه معطلة في فصل الصيف العراقي اللاهب».