إسطنبول | كان واضحاً منذ اليوم الأول لاستضافة تركيا اجتماع المعارضة السورية في مدينة أنطاليا، في شهر آب من العام الماضي، أن أنقرة قد اتخذت قرارها حيال الأزمة السورية. ويمكن تلخيص هذا القرار بالتخلص من الرئيس بشار الأسد مهما كلّف ذلك مادياًَ ومعنوياً. وجاء قرار أنقرة باستضافة قادة «الجيش السوري الحر»، وتقديم كافة أنواع الدعم المادي والعسكري إليهم ليثبت للجميع أنّ القضية السورية قد تحوّلت إلى موضوع شخصي لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو، لأنّ بقاء الأسد سيعني في نهاية المطاف افلاس سياساتهما في سوريا، والمنطقة عموماً، لأنّ أردوغان يسعى لأن يكون زعيماً إسلامياً لها بتشجيع أميركي وغربي. وجاء الحادث الأخير في بلدة أكجاقلعة ليثبت للجميع نوايا أنقرة للتدخل المباشر في سوريا. فقد فشلت أنقرة في اقناع العواصم الغربية منذ البداية بمساعدتها على إقامة حزام أمني تركي داخل الأراضي السورية بحجّة استقبال موجة النازحين السوريين، بعدما بالغت في الموضوع، وقالت إنّها تتوقع وصول 300 ألف منهم آنذاك. واستفزت أنقرة البعض منهم للمجيء إلى المخيّمات عبر دعايات المعارضة السورية والجيش الحر. وهو الحال بالنسبة إلى المجلس الوطني السوري، الذي تأسّس في إسطنبول. ويفسّر ذلك كثافة العمليات المسلحة للجيش الحر في سوريا على طول الحدود مع تركيا، حيث سيطر على البوابات الحدودية بدعم مباشر من حكومة أنقرة. ويذكر الجميع كيف أرادت تركيا في شهر حزيران الماضي استغلال إصابة شرطي تركي بجراح خلال اشتباكات وقعت بين الجيش السوري ومسلحي الجيش الحر، الذين تسللوا عبر الحدود واشتبكوا مع الجنود السوريين الذين لاحقوهم حتى دخولهم الأراضي التركية. ورأت الحكومة التركية أن اختراق الرصاص السوري لأراضيها حجّة ومبرّر للردّ العسكري المباشر، وطلبت من الحلف «الأطلسي» عقد اجتماع طارئ، فيما رفض الحلف آنذاك الطلب، كما رفض طلباً مماثلاً من أنقرة، عندما أسقطت طائرة استطلاع تركية بعد اختراقها المجال الجوي السوري. وعبّأت حينها حكومة أردوغان، بدعم من وسائل الإعلام الموالية لها، الشارع الشعبي ضد سوريا، كما استمرت في البحث عن أيّ سبب ومبرّر للتدخل المباشر، بعدما فشلت في مشروعها لإسقاط النظام عبر «الجيش الحر» والمجموعات المسلحة بما فيها «القاعدة»، حسب تعبير قادة حزب «الشعب الجمهوري» المعارض، والمعلومات الصحافية التي تحدثت عن تسلّل المسلحين من مختلف الدول العربية وأفغانستان عبر الأراضي التركية إلى الداخل السوري للقتال ضد النظام. واكتسبت التطورات الأخيرة في التوتر التركي – السوري أهمية إضافية لتوقيتها الزمني، حيث بدأ الجيش السوري أكبر عملية عسكرية نوعية ضد المجموعات المسلحة في حلب، باعتبار أنه بحسم موضوع حلب سيُحسم الملف بأكمله لما لهذه المدينة من أهمية استراتيجية، فهي تبعد عن تركيا حوالى 60 كيلومتراً، وتمثل الامتداد الاستراتيجي للشمال السوري، حيث ينشط «الجيش الحر» بفضل الدعم التركي غير المحدود في جميع المجالات. وعلى سبيل المثال، تقوم طائرات التجسس بدون طيار وكذلك طائرات الاستطلاع والرادارات التركية برصد وتصوير ما يدور ويتحرك في المنطقة وابلاغ مقاتلي المعارضة بها. وهذا ما ساعد مسلحي الجيش الحر على السيطرة على البوابة الحدودية في تل أبيض، التي تقع ضمن المنطقة الكردية دون أي مواجهة مع الميليشات الكردية الموجودة في المدينة. وتقع على النقطة الصفر على الحدود التركية، التي تسلّل عبرها المسلحون واستولوا على البوابة. في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن أنقرة في مأزق جدّي بسبب فشل المعارضة في السيطرة على حلب وحمص وحماة، كما وعد بذلك الأتراك منذ بداية الأزمة. وفشلت أنقرة، ومعها دول وقوى إقليمية أخرى، في اقناع «الأغلبية السنية» بالانتفاض على «النظام العلوي» ومؤيديه من «شيعة إيران والعراق ولبنان». لذا لم يتبق لأنقرة سوى الرهان على توتير الأزمة مع سوريا للحصول على المزيد من الدعم الأميركي والأوروبي، بعدما انتقد أردوغان هذه الدول لأنها لم تعد تهتم بالملف السوري. وهدفت أنقرة من خلال هذا التوتير إلى رفع معنويات الجماعات المسلحة التي منيت، خلال الفترة القصيرة الماضية، بهزائم جدية تفسّر العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة في الساحات العامة. ويبقى الرهان الأخير على الشعب التركي، الذي أثبتت جميع استطلاعات الرأي أن أكثر من 80% منه ضد سياسات الحكومة في سوريا، وهو ما يزعج أردوغان، الذي يسعى إلى استغلال الأزمة الأخيرة لتغيير قناعات الشعب التركي، لينحاز إلى جانب سياساته العسكرية ضد «الديكتاتور الذي يقتل مواطنين أتراكاً»، كما حاول في السابق استغلال موضوع سقوط الطائرة التركية في الأجواء السورية، بحجة أن ذلك قضية وطنية، ويجب أن ينتقم الأتراك لها، وخاصة في هذه المرحلة التي يعتقد أردوغان ووزير خارجيته داوود أوغلو فيها أنهما يمثلان تاريخ وثقافة الإمبراطوية العثمانية العظيمة، التي حكمت هذه المنطقة لمدة 400 عام.