خلافاً لغيره من البيانات المشابهة، يصلح بيان تشكيل «جيش سوريا الجديد» لاعتباره إيذاناً بتحوّلات «نوعية» في خريطة المجموعات المسلحة في سوريا. ولا تنبع هذه الخصوصية من الملمح الأميركي الواضح (تجهيزاً وتسليحاً) الذي عكسته «الإطلالة الإعلامية الأولى» لمسلّحي التشكيل الجديد فحسب، بقدر ما تنبع من الخلفيات السياسية للتشكيل.
وقبل الدخول في بنية «الجيش» الوليد، ينبغي الوقوف عند تصريح مفتاحي مرّ مرور الكرام قبل أيام في زحمة الأحدات الميدانية المتسارعة والحراك السياسي الدولي بحثاً عن حلّ للأزمة السورية. التصريح الذي يحظى بدرجة عالية من الأهمية جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم عمليات «التحالف الدولي ضد داعش»، الكولونيل ستيف وارن، الذي أعلن عن تغيّر سياسة بلاده تجاه القوات الكردية في سوريا. وخلال مشاركته في مؤتمر صحافي عبر نظام «الفيديو كونفرانس» في البنتاغون، خاطب أحد الصحافيين الكولونيل: «قال لنا مسؤول كبير في البنتاغون إن وحدات حماية الشعب الكردية لن تحصل من الآن فصاعداً على أسلحة أو معدات عسكرية.
ما موقفكم في هذا الموضوع؟). ستيف وارن أجاب بوضوح: «لن نمدهم بأسلحة بعد الآن... المعونات التي ستأتي من الآن فصاعداً ستذهب إلى الأعضاء البارزين في المعارضة العربية السورية. وهذه هي سياستنا التي سنتبعها». وأشار إلى «إدراكهم قلق تركيا بشأن المسألة المذكورة»، لافتاً إلى أنها «دولة عضو في حلف شمالي الأطلسي (ناتو)»، وأنهم تناولوا هذه «التخوفات» والتقوا إثرها بالمسؤولين الأتراك. أنقرة بدورها، سارعت إلى الترحيب بالتصريحات الأميركية حول «عدم توجيه أي مساعدات عسكرية لحزب الاتحاد الديموقراطي».

«جماعة الكفن الأبيض» هي واحدة من أذرع «الأصالة والتنمية»


وقال الناطق باسم الخارجية التركية، تانغو بيلفيج: «لقد أبدينا قلقنا سابقاً، وسنقوم بمتابعة تطبيق هذه التصريحات عن قرب على الأرض». ومن المؤكّد أن هذا التحوّل الأميركي لم يأتِ من فراغ، أو يولد بين عشيّة وضحاها، شأنه في ذلك شأن تشكيل «جيش سوريا الجديد»، الذي يبدو أحدث المحاولات (وأكثرها جديّة) لإعادة إنتاج «الجيش الحر» بمسمى جديد.
«المُنتج» الجديد هو في واقع الأمر مشروع قديم حافظ عليه الأميركيون إلى جانب برنامج «البنتاغون» الفاشل لتدريب «المعارضة المعتدلة». ويبدو أن المعطى السياسي بات مواتياً لتصدير «المُنتج» في ظل تقارب تركي ــ أميركي في سوريا، أوضحُ انعكاساته أخذ واشنطن في الاعتبار الهواجس التركية في ما يخصّ السيطرة الواسعة لأكراد سوريا على جزء كبير من الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا. وكان أول ملامح التقارب الأميركي ــ التركي قد رشَح إلى العلن مع إعلان أنقرة موافقتها على استخدام واشنطن لقاعدة أنجرليك مقابل دخول حكومة رجب طيب أردوغان في «التحالف ضد داعش»، ما يعني إطلاق اليد التركية أكثر في الميدان السوري. كذلك، تشير معلومات «الأخبار» إلى أن تحالف التشكيل الجديد مع «البيشمركة» الكردية في سوريا (المدعومة من رئيس حكومة إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني) هو احتمال يحظى بحظوظ عالية.
وجاءت زيارة وزير الخارجية التركي فريدون سينيرلي أوغلو، يوم الأربعاء الماضي، لأربيل (عاصمة «الإقليم») في سياق الترتيبات التركية الجديدة بعد فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية والعمل على احتواء الملف الكردي المتشعّب سريعاً، والذي يملك أحد مفاتيحه المهمة حلفاء أنقرة في كردستان العراق. ومن المؤكّد أن العمل على انتقاء «الكوادر المؤهلّة» للانخراط في «الجيش الجديد» كان قد بدأ قبل أكثر من عام، وقبل بدء الضربات الجويّة لـ«التحالف الدولي» في سوريا. وكانت الخطة الأساسيّة تأخذ في الاعتبار «جبهة ثوار سوريا» البائدة بوصفها مرشّحاً لتكون نواة «الجيش الحر الجديد». («الأخبار»، العدد 2373).
لكنّ «ثوار سوريا» سقطت من الحسبان بعدما أفلحت «جبهة النصرة» في تصفية وجودها في الشمال السوري. ولم تكن «النصرة» لتتمكن من تحقيق ذلك الهدف لولا دعم تركي على مختلف الصعد، وهو أمر عائد في الدرجة الأولى إلى كون «ثوار سوريا» (وقائدها جمال معروف) محسوبةً في الدرجة الأولى على السعوديّة. ويبدو أنّ البديل التركي لتسلّم راية «الجيش الحر الجديد» كان جاهزاً، لتفلحَ أنقرة منذ أيلول 2014 في وضع جماعة محسوبة عليها بدلاً من «رجل السعودية» جمال معروف. ونقلت «الأخبار» حينها عن مصادر سوريّة معارضة معلومات عن «عزم الدول الداعمة على دعم مزيج من المجموعات داخل سوريا، ومسلّحين خارجها تحت قيادة جامعة مُستحدثة».
وأشارت المعلومات حينها على وجه الخصوص إلى «جبهة الأصالة والتنمية» التي أُعلن تشكيلها في أواخر عام 2012 على أنها «تمثل الإسلام الوسطي المعتدل». («الأخبار»، العدد 2404)
. وجاء الكشف عن التشكيل الجديد أمس ليؤكّد تربع «الأصالة والتنمية» على رأس مكوّناته، علاوةً على رفد صفوفه، حسبما علمت «الأخبار»، بمقاتلين في «الجيش الحر» كانوا قد انسحبوا من جبهات القتال سابقاً، وخصوصاً في منطقتي الرقة ودير الزور، وأغلبهم من عشائر عربية تنتشر في الجزيرة السورية. أمّا أبرز امتيازات «الأصالة والتنمية» التي أهّلتها لحيازة الثقة التركيّة، ولتتحول إلى نقطة توافق مع الأميركيين فهو كونُها فصيلاً «إخوانيّاً» لا بالهوى فحسب، بل إنّ عدداً من أبرز قادتها منخرطون في صفوف «الجماعة». ودأبت «الأصالة والتنمية» على امتداد السنوات الماضية على تأسيس «هيئات مدنية» عالية التنظيم تعمل داخل معظم الأراضي الخارجة عن سيطرة الدولة السورية.
تجدر الإشارة إلى أن «جماعة الكفن الأبيض» التي سبق لها أن استقطبت الاهتمام عبر تنفيذ عمليات في مناطق سيطرة تنظيم «الدولة الإسلاميّة» في الرقة ودير الزور، هي واحدة من الأذرع «الانغماسيّة» لـ«الأصالة والتنمية».