غزة | شهد قطاع غزة تزايداً في عدد حالات الانتحار في الأسابيع القليلة الماضية، بحيث وصلت إلى 7 حالات في أقل من ثمانية أسابيع. الغزّيون أرجعوا الأمر إلى حالة الفقر المدقع، الذي يعيشه شبابهم، والبطالة المنتشرة وانسداد الأفق. لكنهم احتاروا في تحميل المسؤولية، للاحتلال الذي يفرض حصاراً شديداً عليهم، أم لحركتي «فتح» و«حماس» المتناحرتين، أم للحكومة التي تدير في القطاع، ويتهمها البعض بأنها مشغولة بتثبيت وجودها سياسياً؟ «الأخبار» عاينت بعض حالات الانتحار، ولاحظت وجود عدّة أسباب دفعت هؤلاء الشباب إلى وضع حدّ لحياتهم، وخصوصاً أن أعمار غالبية المنتحرين تراوح ما بين 16 و25 عاماً.
في منازل الضحايا، تتشابه الأحوال، حيث تسيطر على ذويهم وجيرانهم وأصدقائهم حالة من الصدمة والاستهجان الشديدين جراء الشائعات التي تقول إن المنتحرين يعانون أمراضاً نفسية، وإنهم حاولوا الانتحار أكثر من مرة. الأهل يؤكدون أنّ أبناءهم كانوا يعيشون حياة طبيعية من الناحية الاجتماعية. واللافت أنهم جميعهم يؤدون الفروض الدينية.
إيهاب أبو ندى (19 عاماً)، لم يكن يعلم أن رسالته التي قدم حياته في سبيل إيصالها إلى المسؤولين في حكومتي «فتح» و«حماس» لن تصل. يؤكد شقيقه نور أن إيهاب لم يكن ينوي الانتحار، بقدر ما كان يريد أن يلفت نظر المسؤولين إلى الحالة اليائسة للمواطنين، التي تدفع بهم نحو الانتحار، والدليل على ذلك اختيار باحة مستشفى الشفاء مكاناً لإضرام النار في جسده.
ويقول نور: «إشعال نفسه بالنيران على بوابة مستشفى الشفاء الطبي، له دلالات واضحة على أنه يعرف ماذا يفعل وأنه لم يكن ينوي الموت، كذلك فإنه بعدما أشعل النيران بجسده دخل بسرعة إلى الصيدلية للحصول على المساعدة».
والده سفيان (40 عاماً) يؤكد أن ابنه كان ملتزماً الصلاة والصوم، وكان محبوباً بين أهله وأصدقائه، ولكن ظروف الحياة السيئة هي التي دفعته إلى الانتحار. وكان إيهاب طالباً مجتهداً في دراسته، يعيش في بيت قديم مكوّن من غرفتين صغيرتين بين أربعة أشقاء وشقيقة واحدة، بالإضافة إلى والدته ووالده الذي يعمل في أحد الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة سلام فياض، ولكن راتبه لا يكاد يكفي سدّ جوع أبنائه واحتياجاتهم اليومية، وخصوصاً أنه يعيش في بيت بالإيجار.
ويقول سفيان إنه لم يكن يستطيع مواصلة العمل بسبب إصابته بمرض السكر، فقرر أن يترك إيهاب الدراسة ويتجه لسوق العمل، كي يساعد في إعالة العائلة. لكن الحظ لم يحالف الفتى المثابر، فلم يجد له عملاً سوى التجول في الشوارع لبيع أكياس بطاطا «شيبس». ومع أنه توجه إلى أكثر من عمل، منها منظف للأواني في أحد المطاعم، لكن الحال لم تتغير، إلى أن خطر في باله أن يعمل بالأنفاق، رغم خطورتها. عمل لأكثر من أربعة أيام متتالية. كان يعمل 18 ساعة باليوم الواحد، في مقابل 100 شيكل لليوم الواحد، لكن في اليوم الخامس فوجئ بأن صاحب النفق استغله، ولم يدفع له المال، فعاد بخفي حنين إلى منزله حاملاً هموم الدنيا. حاولت والدته التخفيف من روعه ومواساته لكنه لم ينطق ببنت شفة.
تغلب الغصة على صوت الأم الباكية وتروي: «تأخر فاتصلت لأطمئن إلى مكان وجوده، وعندما رد قال إنه تعب، وإنه في عالم آخر غير عالم غزة، وطلب مني مسامحته على ما لم يستطع توفيره لنا».
حكاية جمعة عروق (19 عاماً) بمرارة حكاية إيهاب، إن لم تكن أشدّ. جمعة كان يتمتع بروح الفكاهة، لكن زوجة عمه لم تدرك أنه لم يكن يمازحها هذه المرة، وهو واقف لافاً الحبل على رقبته، حين صعدت سطح منزلهم لوضع الطعام للحمام. صرخت بأعلى صوت امتلكته بتلك اللحظة، دوت به أرجاء الحي الذي يسكنون فيه وخلعت قلب والدته الخمسينية، التي رفضت تصديق ما جرى لابنها، الذي كان من المقرر أن يزف إلى عروسه بعد أقل من شهر.
لا تختلف حياة الفقر التي كان يعيشها جمعة عن زميله إيهاب، وخصوصاً أنهما يعيشان في نفس الحي. تقول والدة جمعة: «كان يمتلك سبع صنايع والبخت ضايع». وتضيف أنه حاول كثيراً إيجاد فرصة عمل دائمة من دون أن يفلح. قبل أن ينتحر كتب جمعة رسالة تقول: «أنا يئست من الحياة بدي اتوجه لله وأطلع أعيش بالسما وهو راح يساعدني».
توضح والدته (أم مفيد) أن ابنها عاش فترة حياته الأخيرة يائساً وذليلاً، وخصوصاً أنّهم يعيشون في حي يجمعهم مع قيادات ومسؤولين في الحكومة المقالة. وتضيف: «حاول جمعة طلب المساعدة من أحد المسؤولين بإيجاد عمل له، بأسلوب أقرب إلى التوسل، لكنه لم يحصل على شيء». وتتابع: «شاءت الظروف أن تجمعني بقيادي آخر بحكم الجيرة والقرابة، وهمست لي إحدى قريباته بأنها فرصتي للحصول على عمل لابني، فتشجعت لمحادثته». لكن أم مفيد لم تتمالك نفسها من البكاء أمام تلك الشخصية، بعدما شعرت أنها أهانت نفسها، وأنها بدت كمتسولة. لم تحصل منه إلا على وعد بمحاولة مساعدة أحد أبنائها الآخرين، وما كادت تهم بالخروج، حتى بعثت تلك الشخصية لها بـ100 شيكل لتزيد حرقتها على نفسها وعلى ابنها.
في عزاء جمعة لم تحضر تلك الشخصية، لكنها تكفلت بمصاريفه جميعاً، كما أُدرج أخوه الأكبر ضمن إعانات البطالات الحكومية لمدة عام كامل، فيما أُدرج والده على لائحة الإعانات لشهرين ومُنحت العائلة مبلغاً قدره 200 دولار أميركي.
وفي آخر محاولات الانتحار، تحدثت أنباء عن محاولة شاب إحراق نفسه في أحد البنوك بالقطاع، بعد جدال دار بينه وبين أحد الموظفين حول المعاملات المالية. وحسب الرواية، فإن الشاب فتح زجاجة وسكب جزءاً بسيط منها على نفسه، قبل أن يتدخل المراجعون لإنقاذ الموقف.
ورغم كثرة الشائعات المتداولة حول الأمراض النفسية التي يعانيها المنتحرون، يخشى المواطنون ازدياد معدلات الانتحار، في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة. ويتوقع البعض أن تزيد النسبة أكثر من ذلك لتؤدي إلى اندلاع ثورة حقيقية على غرار الثورات العربية.
ويؤكّد المختص في الشؤون النفسية، فضل أبو هين، أنّ الانتحار مرض اجتماعي ناتج من الشعور باليأس وفقد قيمة الحياة ومتعتها، مشيراً إلى أن صعوبة الوضع الاقتصادي تدفع الأشخاص إلى التفكير في تفضيل الموت على الحياة، محملاً الحكومة مسؤولية هذا الوضع.