عشية الذكرى التاسعة والثلاثين لحرب «يوم الغفران» (تشرين الأول 1973)، سمحت وزارة الدفاع الإسرائيلية أمس بنشر عدد من الوثائق السرية المتعلقة بتلك الحرب والتي هي عبارة عن محاضر التحقيق التي أجرتها لجنة «أغرانات» مع عدد من الشخصيات الرسمية في إسرائيل من السياسيين والعسكريين.
ومن بين أبرز الوثائق التي نشرت أمس، محضر تحقيق مع قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي أثناء اندلاع الحرب، الجنرال شموئيل غونين، وكذلك محضر تحقيق مع وزير الخارجية الإسرائيلي في حينه، أبا إيفين، ومحضر تحقيق مع نائب رئيس الموساد في تلك الفترة، ألفرد عيني. وتجمع مضامين الوثائق المنشورة حول حقيقة رئيسية هي حجم الإخفاق الإسرائيلي في تقدير خطر اندلاع الحرب ونجاح الجانب العربي في تضليل الاستخبارات الإسرائيلية بهذا الخصوص.
ولعل أبرز ما تكشف عنه الوثائق، التي خرجت إلى العلن، هو الحديث عن اشتباه كبيرة ساد أوساط المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بشأن تمكن الاستخبارات المصرية من الحصول على وثيقة عسكرية سرية أعدها الجيش الإسرائيلي، وتتضمن عدداً من المؤشرات الميدانية المفترضة في الجانب المصري، والتي كان يُعتقد أنه في حال أقدم الجيش المصري على القيام بها فإنها تعني أنه يرفع جهوزيته في إطار الاستعداد لشن حرب. وهو ما كان من شأنه أن يوفر إنذاراً ميدانياً مبكراً للجيش الإسرائيلي. وتبعاً لذلك، أقدم الجيش المصري على خديعة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بممارسة إجراءات مخالفة تماماً للمؤشرات التي تتضمنها الوثيقة، والتي عُممت على مراكز الرصد الإسرائيلية الأمامية، ما أتاح له تضليل الجيش الإسرائيلي ودفعه إلى الاعتقاد بعدم وجود استعدادات مصرية خاصة لشن حرب.
وكشف غونين أمر هذه الوثيقة في إحدى جلسات التحقيق معه من قبل اللجنة، حيث أفاد بأنه في بداية عام 1973 جرى بحث داخل هيئة الأركان تقرر خلاله تقليص فترة الخدمة النظامية على الجبهة الجنوبية بناء على فرضية تستبعد «حصول حرب مع مصر خلال العامين المقبلين». وتحدث غونين في السياق عن أمر عسكري كان قد صدر قبل أشهر من اندلاع الحرب ويتضمن 14 مؤشراً يدل على وجود نية مصرية لشن حرب، مشيراً إلى أن الغاية من الأمر كانت تزويد الجنود في المراصد الأمامية بمعايير تفيد في تشخيص استعدادات مصرية للحرب. وشرح غونين أن الأمر كان يفترض أن يصل إلى المراصد على شكل وثيقة خطية، نافياً علمه بحصول ذلك فعلاً. وخلال النقاش مع أحد أعضاء اللجنة، أوضح الجنرال الإسرائيلي أن المصريين لم يقدموا على أي خطوة تم تحديدها في الوثيقة، ما دفع عضو اللجنة إلى إثارة فرضية أن يكون المصريون قد تمكنوا من وضع يدهم على الوثيقة. «فعلى سبيل المثال، الجنود المصريون تجولوا من دون أحزمة ومن دون قبعات، وعوضاً عن الاختفاء ذهبوا ليصطادوا السمك، وواصلوا نصب الخيم بدل تفكيكها. ولقد حصلنا على تقرير من 848 (وحدة التنصت في حينه) بأن كمية الاتصالات (بين الوحدات العسكرية المصرية) في هذه الفترة كانت أقل بكثير من الفترات السابقة». وختم عضو اللجنة متسائلاً «ألا يعقل أن تكون الوثيقة سقطت في أيدي المصريين وقاموا بممارسة عكس الوارد فيها»، فما كان من غونين إلا أن أجاب بالقول إن أياً من المؤشرات الواردة في الوثيقة لم يتم تشخيصها حتى لحظة فتح النار.
وخلافاً للجبهة المصرية، تكشف الوثائق أن المؤشرات الميدانية على هجوم سوري على الجبهة الشمالية كانت متواترة وواضحة، إلا أنه لم يتم أخذها بالحسبان في ظل تقدير الاستخبارات العسكرية بأن القيادة السورية غير معنية بالحرب ووضعها الإجراءات السورية في إطار دفاعي. ووفقاً لإفادة قائد المنطقة الشمالية في حينه، الجنرال إسحاق حوفي، أمام اللجنة، فإنه كان ظاهراً أن الجيش السوري ركز عدداً كبيراً من الدبابات وبطاريات المدفعية على الجبهة مع إسرائيل، وأنه قبل أسبوعين من الحرب كشفت صور التقطت من الجو أن سوريا نشرت 670 دبابة و101 منصة مدفعية قبالة جبهة الجولان، وعززتها عشية الحرب إلى 760 دبابة و140 منصة مدفعية.
وبالانتقال إلى الجبهة السياسية، أظهرت وثيقة أخرى محضر التحقيق مع وزير الخارجية آبا إيفين، أن كلا من تل أبيب وواشنطن لم يكونا يعتقدان أن سوريا ومصر ستشنان حرباً في يوم الغفران. وكشف إيفين أن وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، كان أعرب عن تقديره قبل يومين من اندلاع الحرب بأن القاهرة معنية بالعمل في المجال السياسي وليس العسكري. وقال إيفين «لقد كنا نعمل انطلاقاً من فرضية أن قوة ردعنا كبيرة وساحقة إلى درجة أن السادات لن يحاول مهاجمتنا إلا إذا قرر الانتحار». ورأى إيفين أن «الاتحاد السوفياتي غير معني بحرب بسبب الخشية من هزيمة مصر، وقد كانت هناك إشارات من شخصيات سوفياتية بهذا الشأن». وشرح إيفين كيف أنه عمل في الأيام الأولى على منع انعقاد مجلس الأمن بسبب الوضع الميداني السيئ لإسرائيل «وكان هناك توقع بأنه سيحصل تحسن خلال أسبوع».
وعلى خط موازٍ، كشفت الافادة التي أدلى بها نائب رئيس الموساد ألفرد عيني، كيف أن أشرف مروان، صهر الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، ومستشار الرئيس أنور السادات، الذي كان من أبرز عملاء الموساد، بعث ببرقية عاجلة قبل ساعات من اندلاع الحرب وطلب فيها لقاء رئيس الموساد، تسفي زامير، في لندن وأبلغه خلاله أن سوريا ومصر ستشنان الحرب عند السادسة من مساء اليوم نفسه، إلا أن الموساد لم يحول المعلومة إلى رئيسة الوزراء، غولدا مئير، مباشرة، بسبب عدم وجود تدبير رسمي يتيح ذلك.