داريا | قُبيل مدخل داريا، تتوقف السيارات عند حاجز تفتيش للجيش السوري. يكفي تقديم البطاقة الشخصية من دون أي أسئلة متوقعة من العناصر الموجودين على الحاجز. وبين المتاريس العسكرية، تمضي السيارات لتصل إلى مدخل المنطقة المقصودة المشهورة بصناعة المفروشات. وهُنا يبدأ البحث عن حجة، قد لا تُصدَّق، لتبرير الدخول إلى المكان الساخن، فتأتي الفكرة وهي: البحث عن كراسي لغرفة ضيوف!
لا يوجد الكثير اليوم لترويه داريا، مدينة الناشط السلمي الشهير غياث مطر، صاحب فكرة توزيع الورود والمياه على عناصر الجيش السوري، والذي قُتل في ما بعد وانتُزعت حنجرته، قبل أن يبدأ طرفا القتال بتبادل الاتهام في جريمة مقتله، وتودّع داريا سلمية ثورتها إلى غير رجعة. سامح، ابن المنطقة والدليل المرافق، يشرح أماكن تمركز مدفعية الجيش السوري، وأهمها مطار المزة العسكري، لضرب مراكز وجود عناصر الجيش الحر في داريا والمعضمية والتضامن وببيلا. يحذر الشاب الديراني من التصوير؛ فثمن الصورة قد يكلّف غالياً، في ظلّ الجو المشحون والمخيّم على أهل المنطقة العائدين إلى بيوتهم، ولا سيّما مع الوجود الأمني. وجود متمثّل ببعض العناصر المنتشرين بين المحالّ التجارية، التي فتحت أبوابها أخيراًً، وسط كثرة الهمز عن تخفّي عناصر آخرىن بين سائقين استمروا بالعمل رغم الأوضاع الأمنية العصيبة التي شهدها المكان. لذلك، فإن استمرار السيارة في التجول ذهاباً وإياباً يجعل منها محط العيون الرقيبة، لأشخاص معظمهم مجهولو الهوية.
على جانبي الطريق، تظهر مزارع الكرمة، التي لطالما اشتهرت بها داريا، إلا أنّ الإهمال فيها واضح. الأشجار مثقلة بثمارها وهموم أصحابها ممن لم يملكوا أملاً في جنيها، وكسب بعض ما يسد الحاجة في زمن الحرب التي تشهدها البلاد. مع ذلك، يبقى هنالك بعض الباعة المتجولين من المغامرين، الذين يجرّون عربات العنب من دون أن تثنيهم أصوات القذائف المسموعة بوضوح من حدود المعضمية المجاورة.
ورغم التوقعات بكبر حجم الخراب إثر مجزرة داريا التي حصلت في 25 آب الماضي، فإن مشاهد الدمار بدت محدودة قياساً إلى مناطق أُخرى شهدت أعمال عنف. واقتصرت المشاهد في المنطقة، التي لم تهدأ منذ الأشهر الأولى للحراك، على مظاهر واضحة لسيطرة الجيش الحر على المدينة لفترة طويلة. فقد تسنى لعناصره وأنصاره خلالها نشر عبارات الولاء على جدران المباني وأسوار المقابر والمؤسسات المحترقة. عبارات لم يتمكن الجيش السوري من محوها جميعاً لكثرتها. «الجيش الحر يحميني»، عبارة مكتوبة بوضوح في منتصف الطريق الرئيسي، وتثير الفضول للتصوير. إلا أن أحد الباعة المتجوّلين يجلس قبالتها مستنداً إلى عربته ونظراته تراقب المارّة، ما يعوق أي محاولة لاصطياد اللقطة الفوتوغرافية خشية وقوع مفاجآت تحوّل الرحلة المغامرة إلى كابوس دموي. أما علم المعارضة بنجماته الثلاث، فمنتشر في كل مكان، وبمختلف الأحجام. هذا إضافة إلى عبارات «الله أكبر» و«الحرية»، وبعض الشتائم ولعن الأرواح التي أُزيلت وكتبت بدائل عنها مثل: «الجيش العربي السوري مرّ من هنا» أو «الأسد أو نحرق البلد». المقبرة حاضرة وسط المدينة كشاهد على الذين رحلوا، وتبدو أبرز ما بقي سالماً بعد العنف الذي ترك أثره على المنشآت، كمبنى فوج الإطفاء والمخبز الآلي ومبانٍ أُخرى، فيما عادت الحياة تدريجاً إلى بعض معارض المفروشات ومحال الأطعمة.
زياد، صاحب معرض مفروشات، يرفض الإجابة عن الأسئلة باستثناء سؤال واحد استفزه ويدور حول إزالة الدمار، الذي لم يحصل كما رُوِّج له إعلامياً، وهنا ينتفض ليصحح الفكرة قائلاً: «منذ أسبوع فقط أتت الجرافات لتنظيف المدينة وبدأت عمليات إعادة الخطوط الهاتفية». لا أمل في أي معلومات إضافية يقولها زياد، الذي كان في نفسه شكوك من بحثنا عن مفروشات في مدينة عائدة لتوّها إلى الحياة. على ناصية الشارع الرئيسي يجلس سعيد، طفلٌ في الثانية عشرة، يبيع الصبار، وهو النبات الذي نال حصته من حصاد العنف المرافق للثورة السورية أسوة بالبشر وباقي المخلوقات. يظهر بوضوح أن الطفل لديه تعليمات بعدم التكلم مع الغرباء. يُشغَل بتقشير الصبار مكتفياً بالإجابة عن سؤال يخص ثمن الصبارة الواحدة قائلاً: «خمس ليرات». رفيقه خالد الأصغر سناً يحاول شرح الأمور، فيرمقه سعيد بنظرة تحذيرية ثم يبتسم بحرج. كل ما استطاع الصغير أن يقوله إن الحركة تنتفي ليلاً، في حين أن محالّ المفروشات تفتح أبوابها بعد أن يتخابر التجار هاتفياً بهدوء المناطق أو تحذير بعضهم لبعض من وجود اشتباكات أو قناصة.
وقوف عدد من الغرباء للحديث مع الطفلَين يثير حفيظة الباعة الموجودين في الشارع. يقترب أحد الشبّان بطريقة فضولية بحجة شراء ترمس من الولدَين، فتسود دقائق من الصمت ريثما يبتعد ببطء. تناول المزيد من الصبار عقوبة تُضاف إلى قائمة عقوبات الرحلة، لكنه ضرورة لا بد منها لاستمرار الوقوف مع البائعَين الصغيرَين. يجيب سعيد ببعض المعلومات عن العائلات قائلاً: «معظم العائلات النازحة قد عادت. لقد لجأوا إلى الليوان وكفرسوسة. أما النساء والأطفال والشيوخ فقد استقبلتهم بيوت صحنايا».
يرفض الطفل الإجابة عن أي سؤال يخص المجزرة، وعند سؤاله عن الطريق إلى جامع أبي سليمان الديراني يشير إلى جامع قريب آخر لا يزال قيد البناء متقصّداً عدم المساعدة في الوصول إلى الجامع. ومع ابتسامته المحرجة، التي لم تفارق وجهه، لا يقبل البائع الصغير تحت أي ضغط مبلغاً زائداً على ثمن الصبار.
الخروج من داريا يشابه الدخول حيث يقف حاجز الجيش السوري مودّعاً. وعلى الحائط المجاور لأحد المتاريس التي تفصل داريا عن جارتها المعضمية كُتبت عبارة: «الله للعبادي... الجيش العربي السوري سحق الأعادي».



سوريا وفلسطين

كل الدروب تؤدي إلى جامع أبي سليمان الديراني، الذي شهد إحدى أبشع المجازر منذ بداية الأحداث السورية، وعُثر فيه على 120 من ضحايا المجزرة الشهيرة، التي أثارت حفيظة العالم ضدّ النظام السوري، والذي اتهم بدوره عناصر الجيش الحر بتنفيذها ضدّ مدنيين اختطفهم سابقاً.
آثار الاشتباكات على الجامع لا تختلف عن آثار مشابهة على جوامع أُخرى. وقريباً من المكان يظهر علم النجمات الثلاث تتوسطه كلمتا «سوريا» و«فلسطين». أمرٌ برّره سامح بكثرة الفلسطينيين المقيمين في داريا. قليلٌ بعد ويظهر مؤشر آخر على وجود الفلسطينيين، وهو مقرّ جيش التحرير الفلسطيني. وفي هذا المقرّ لا توجد آثار تخريب أو رصاص على جدرانه، رغم اغتيال عدد من ضباطه قرب المكان. وفي هذه الجريمة أيضاً جرى تبادل الاتهامات بين الجيش الحُر والسُّلطات السورية. وما بين الشكوك بقيام الجيش الحرّ بتصفية قيادات جيش التحرير، بحجة أن قيادته لم تتخذ موقفاً مع الثورة السورية، ومحاولات النظام السوري التخلص من ضباط فلسطينيين شكك بولائهم، تضيع التحقيقات.