الإسكندرية | لم تختلف الأحداث التي وقعت أمام السفارة الأميركية في القاهرة منذ انطلاق التظاهرات الاحتجاجية على الفيلم المسيء للرسول، أو تلك التي وقعت أمام القنصلية الأميركية في الإسكندرية يوم الجمعة الماضي عن سابقتها كثيراً، سوى في بعض التفاصيل التي كشفت بدء تجذر ظاهرة جديدة، سادت في المجتمع في الآونة الأخيرة، وهي «أن يصبح الاشتباك هدفًا في حد ذاته»، «والاعتداء غايةً وليس وسيلة».
فأمام السفارة الأميركية في القاهرة، لبّى المئات يوم الثلاثاء الماضي نداء الاحتجاج على فيلم «براءة المسلمين»، وتحول الأمر في المساء إلى اشتباكات محدودة، رآها البعض من ضرورات التجمعات الحاشدة والغاضبة. لكن سرعان ما تحول الأمر إلى مطاردات وحرب شوارع بين جنود الأمن المركزي ومتظاهرين جدد غير متظاهري اليوم السابق. المتظاهرون من يوم الأربعاء إلى الجمعة خرجوا إلى الشوارع بـ«سبب الدين»، لكنهم لم يترددوا في استخدام عبارات فاحشة وبذيئة. ودخلوا في مصادمات قاسية في ما بينهم ومع رجال الشرطة أيضاً، وعمدوا الى سرقة متعلقات جنود الأمن المركزي.
وهو أمر جاء مشابهاً لما حدث في الإسكندرية يوم الجمعة الماضي حينما أصيب 12 شخصاً، بينهم 6 مجندين، من قبل المتظاهرين. ووفقاً للتحقيقات الأولية والمشاهدات الميدانية، كان الكثير منهم من المطلوبين في الإسكندرية والقاهرة.
هذه التفصيلات التي ظهرت في الأيام القليلة الماضية مع عدد من الوقائع الأخرى القريبة، سلطت الضوء على معنى جديد للفظ «الاشتباكات». ففي ما سبق، كانت تطلق كلمة اشتباكات في الصحافة المصرية عندما تحدث «مشاجرة» بالأسلحة البيضاء أو اشتباك لقوات الاحتلال مع الفلسطينيين؛ إلا أن الثورة صنعت مفهوماً جديداً لـ«الاشتباكات»، وهو اشتباك المواطن المصري مع الأمن، إلى أن أصبح هذا الأمر شيئاً اعتيادياً عند وجود تظاهرة. وبات حتمياً انتهاء أي تظاهرة باشتباك، ولا سيما مع الداخلية التي لا تكون بالأساس الهدف في أي تظاهرة، لتصبح هذه الاشتباكات مع الداخلية من دون هدف، ولكن فقط لأن الداخلية «ولاد ...» وليس لشيء أكثر.
هذا الأمر زكّى من روح العداء التي باتت تنتشر بين الشباب، ولا سيما أن هؤلاء باتوا يبحثون عن عدو يفرغون فيه شحنة غضبهم. في المقابل، يجد جنود الشرطة والأمن فرصة لتفريغ شحنة الغضب المكبوتة في داخلهم منذ ثورة 25 يناير، لتصبح الاشتباكات «سبوبة» لأطراف كثيرة.
فالاشتباكات باتت «سبوبة اجتماعية» لبعض الشباب، الذين لا يجدون قيمة اجتماعية إلا عند الاشتباك. فيقال لهم «جدع»، و«إنت راجل قوي». كما أنها تشكل لدى البعض الآخر وسيلة لتنمية علاقات بينية مع المشتبكين وتكوين صداقات من الميدان، بل وأحياناً علاقات حب وزواج. أما البعض الآخر، فلا يذهب للمشاركة إلا لمساندة المشتبكين ضد الداخلية من دون أن تكون قضية الاشتباك تخصهم أو قضيتهم. من جهةٍ ثانية، باتت الاشتباكات «سبوبة» اقتصادية. فأي مكان تحدث فيه اشتباكات، سواء في وسط القاهرة أو في الإسكندرية، يشهد انتعاشاً اقتصادياً. المشتبكون في حاجة دائمة إلى المياه وبعض الحلوى التي تعطي الطاقة وبطاقات شحن الهواتف للتواصل أو الاطمئنان على ذويهم وأصدقائهم في الاشتباك، فضلاً عن الأعلام التي تعبر عن أطراف الاشتباك. وعندما يطول وقت الاشتباك وتنهك القوى يكون الجميع بحاجة الى الطعام. هذا بخلاف أدوات مواجهة الشرطة من أقنعة ومياه غازية أو بنزين أو أي شيء يمكن به مواجهة الشرطة. ففي هذه اللحظة، تصبح قيمة المال غير مهمة في مقابل الكرامة أو المقاومة أو الحياة.
على جانب آخر، فإن من أكبر المستفيدين من هذه الظاهرة الإعلام، الإعلامي أو الصحافي بات «أمير حرب، يريد جنازة ويشبع فيها لطماً». فتنشط برامج «التوك شو» والمداخلات والصور والتقارير والإعلانات والكلام على مدار أيام بدلاً من الفراغ الذي يعيشه الإعلاميون بدون مادة ثرية كالاشتباكات.
أما «السبوبة» الأكبر وهي السبوبة السياسية، التي تستفيد منها الدولة والداخلية والنظام السابق. فالدولة تحتاج إلى مثل هذه الأحداث لكي تمرر بعض السياسات والقرارات التقشفية أو ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية التي تجعل هذا الغضب وتلك الطاقة تتوجه صوبها، كأزمات البنزين أو ارتفاع معدلات الاستدانة.
أما الداخلية فتكون أول المرحبين بالاشتباكات، فضباطها متعطشون للانتقام من هؤلاء الذين حطموا أسطورتهم التي تقهر في «أحداث يناير». والجنود يصور لهم الأمر على أن كل متظاهر «بلطجي» يرغب في كسره مرة أخرى. وهنا يهنأ الفلول، فإذا الدماء سالت تعقدت الأمور أكثر.