القاهرة | «قالي مش راجع إلا لما مبارك يسقط، مبارك سقط وهو لسه مرجعش». قالتها أم، وهي تبلّغ عن اختفاء ابنها في أحداث ثورة 25 يناير. مرّ عشرون شهراً، ولا يزال غائباً، لكنه ليس الوحيد. فالمفقودون في الثورة، هم وجع القلب الذي لم ينته. من مات حصل على لقب شهيد واحتضنه والداه قبل أن يدفناه في مكان يزورانه كل فترة. ومن أصيب فهو إما يخضع حالياً لبرنامج علاجي أو ممن أُهملوا. والمعتقل لديه أمل في أنه يوماً ما سينال حريته، لكن يبقي المفقود «لا هو ميت ولا هو عايش». سجلات الحكومة لا تذكر شيئاً عنه. خرج ولم يعد، تلك الجملة التي تراها معلقة على جدران أغلب الشوارع وإلى جوارها صورة شخص مدون عليها رقم هاتف «يرجى الاتصال في حال وجود صاحب الصورة»، تبقى الأمل الوحيد لعثور ذويه عليه. المفقودون في الثورة، أو من تعرضوا للاختفاء القسري، أصبحوا ظاهرة تؤلم كل من يحاول متابعتها. الحكايات قد تكون متشابهة، لدرجة توحي لمتابعيها بأنها قصة واحدة، لكنها تختلف في الأسماء والأمكنة وبعض التفاصيل الصغيرة. بعض المفقودين اختفوا في أحداث الثورة، والبعض الآخر في الأحداث الكثيرة التي تلتها خلال حكم المجلس العسكري.
ومن بين تلك الحكايات، حكاية محمد صديق توفيق، كما ترويها الشهادات التي جمعها عدد من النشطاء. وفي التفاصيل، أن توفيق شارك في تظاهرات يوم «25 يناير»، وعاد إلى منزله فجر اليوم التالي بعد فض الاعتصام بميدان التحرير بالقوة، وقال لوالدته: «اتفقنا على العودة للميدان يوم الجمعة 28 يناير، ولن نرجع إلى بيوتنا إلا بعد رحيل الطاغية». نزل يوم «جمعة الغصب»، وانضم إلى مسيرة من منطقة حلمية الزيتون، شرق القاهرة، لميدان التحرير. وصل إلى الميدان، ثم اختفى تماماً. انقطعت خدمات الاتصال في ذلك اليوم، فتعذر على والدته الوصول إليه. انتظرت حتى الفجر لكنه لم يعد، ذهبت إلى الميدان تبحث عنه ولم تجده أيضاً. بحثت عنه في سجلات السجون، المستشفيات والمشارح، ولم تعثر عليه. وعندما عادت خدمة الاتصالات مرة أخرى، اتصلت به والدته فوجدت هاتفه مغلقاً إلى يوم التنحي في 11 شباط. يومها عاودت الاتصال فرد عليها. ووفقاً لروايتها، قال لها: «نعم يا أمي أنا محبوس، ثم انقطع الخط، واتصلت به مرة أخرى ورد شخص صوته زي ما يكون ظابط». وتضيف: «سبّني وسبّ أحمد وتوعد ابني بالويل جزاءً لأنهم فكروا يقوموا بثورة». أما بقية الحكاية، فتختصرها والدته بالقول: بعد ذلك ببضعة أشهر، حاولت الاتصال به مرة أخرى، ورد علييّ شخص، أخبرني أنه مجند في القوات المسلحة، وأنه وجد هذا الهاتف ملقى عند النقطة العسكرية في منطقة الجبل الأحمر.
وحسب الروايات والشهادات المجمعة، فإن أغلب من فقدوا كانوا في أحداث جمعة الغضب، 28 يناير. وهو اليوم الذي شهد أكبر مواجهات مع جهاز الشرطة، وشهد في آخره انسحاب الشرطة من كل مواقعها. لكن هذا لا يعني أن الأحداث التي تلت ذلك اليوم لم تشهد عمليات اختفاء قسري، ومنها قصة اختفاء محمد الشافعي محمد إبراهيم، وهو مجند في القوات المسلحة. في يوم 30 كانون الثاني 2011، كان الشافعي في إجازة، وبينما كان ماراً مع أبناء عمومته في سيارة خاصة عند قرية دهشور، توقفوا عند نقطة تفتيش أقامها الجيش، وطلب منهم أوراقهم الثبوتية. لكن محمد لم تكن معه هويته، فأصر الضباط على القبض عليه بدعوى «التحري». وهو مصطلح مصري دارج يعني القبض على الشخص والكشف عن صحيفته الجنائية. أما أبناء عمومته فأُبلغوا أنه يمكنهم تسلمه في اليوم التالي من قسم الهرم. لكن عندما ذهبوا في الموعد المحدد إلى قسم الهرم لم يجداه. ونفى الضباط في القسم أن يكون أحد بهذا الاسم جاء للقسم. وعلى الأثر، عاد أقاربه للنقطة مكان القبض عليه، وسألوا عنه مرة أخرى ولم يجبهم أحد. ومن يومها ومحمد مختفٍ ولا يعرف أحد مصيره.
وتشير الروايات إلى أن عمليات اختفاء المشاركين في فاعليات احتجاجية ظلت مستمرة حتى وقت قريب، قبل انتخاب رئيس الجمهورية الحالي محمد مرسي، منها ما هو مسجل في شهر أيار من العام الجاري، حيث سجل النشطاء اختفاء محمود محمد خضره، وهو مدرس، فقد في 4 أيار في ما سمي «أحداث العباسية». محمود كان مشاركاً في اعتصام العباسية مع جماعة «حازمون»، الحركة التابعة للمرشح المستبعد من انتخابات الرئاسة حازم صلاح أبو إسماعيل. وكان ضمن الفريق المسؤول عن تأمين الميدان، عندما اشتعلت الأحداث، أمام وزارة الدفاع، قبل أن يختفي، ولا أحد يعرف مصيره إلى اليوم.
معظم الروايات تشير إلى أن المختفين قُبض عليهم، وهم الآن قيد الاحتجاز من دون وجه حق. لكن هناك تفاصيل أخرى قد تؤدي إلى نتائج مختلفة. المستشار حمدي بهاء الدين، المسؤول القانوني لحركة المفقودين في ميدان التحرير، يقول لـ«الأخبار»، إن أحد الممرضين بمشرحة مستشفى الدمرداش، جاء إليه في ميدان التحرير، وأخبره أنه داخل المشرحة يوجد 57 جثة مشوهة الملامح ولا تحمل أي أوراق ثبوتية. ويرى بهاء الدين أن أغلب المفقودين «هم بالفعل قتلوا وماتوا وأُخفيت جثثهم»، مضيفاً: «أجهزة الأمن هذه لديها من التدريبات ما لا نعرفه، لا أنا ولا أنت». وعن أماكن المقابر التي دُفنت فيها تلك الجثث إن كان توقعه صحيحاً، قال بهاء الدين: «أنت تتعامل مع مجرمين، لا مع دولة، وبالتالي يمكن أن يرتكبوا جريمتهم ويخفوا أثارها». ولفت إلى أن الأمن كان يعتدي على المتظاهرين وإذا قتل أحدهم ينزع منه أوراقه الثبوتيه حتى لا يتعرف إليه أحد.
مصلحة الطب الشرعي، هي الجهة التي يذهب إليها الموتى للحصول على إذن الدفن. وهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن تشريح الجثث وتحديد أسباب الوفاة، وتدوينها في سجلاتها. لكن مصر لا تزال تعاني عدم وجود قانون يتيح المعلومات. أحد الموظفين، وبعد أن أُبلغ أن الجهة التي تتواصل معه هاتفياً «جهة سيادية»، ارتبك قبل أن يقول لـ«الأخبار»: «كنا بنشوف جثث كثير من غير أي أوراق، كنا نضعهم في ثلاجات ونبلغ الأدلة الجنائية، فيحضروا ويحصلوا على بصمات كل جثة ويصوروهم، وتبلغ النيابة العامة التي تأتي بدورها وتأمر بتشريح الجثة وتدفن بعدها في مقابر الصدقة». وهي المقابر التي تخصص لدفن من ليس لهم أقارب، أو لم يستدل على عناوينهم ولا توجد أي معلومات عنهم.
موظف المشرحة، قال أيضاً إنهم كانوا يسجلون أرقام الجثث في سجلات المصلحة، لكنه أكد أنه لا يستطيع الوصول إلى معلومات عنها، لأنها ليست بحوزته. موظف آخر وصلت إليه «الأخبار»، أوضح أن المدة القانونية للإبقاء على أي جثة مجهولة في ثلاجات المشرحة 15 يوماً فقط. وفي أحداث الثورة مُدِّدت المهلة لـ45 يوماً، لكن هناك جثثاً كثيرة لم يجرِ التعرف إليها ودُفنت من دون علم ذويها بعدما «حصلنا على تصاريح من النيابة العامة».
ويبقى أن أكثر ما يؤلم في البحث عن المفقودين في أحداث الثورة، غياب أي إحصائيات رسمية بعددهم. ولا يبدو أن الحكومة تبذل أي جهد فعلي لإنهاء مأساة أسر المفقودين. وفيما فشلت وزارة الداخلية في تحديد المسؤول الذي يجب التوجه إليه بالأسئلة عن دور الوزارة في الكشف عن مكان اختفاء هؤلاء الثوار، علمت «الأخبار» من مصادر داخل الوزارة أنه لا يوجد إحصاء دقيق بعدد المفقودين، سواء كانوا قبل الثورة أو بعدها. وبدا مساعد وزير الداخلية للأمن العام اللواء أحمد حلمي، متحفظاً في الإجابة عن أي سؤال عن الموضوع.
أما أسعد هيكل، عضو لجنة الحريات في نقابة المحامين ومسؤول ملف المفقودين في لجنة تقصي الحقائق التي شكلها رئيس الجمهورية محمد مرسي، فأشار إلى أنه «لا يوجد إحصاء دقيق بعدد المفقودين لأنه لا توجد جهة رسمية تجمع معلومات عنهم، وأن كل الأرقام الموجودة ما هي إلا لمنظمات حقوقية وبعض النشطاء حاولوا أن يعدوا إحصائيات لكنها تبقى غير دقيقة». وتحدث عن عدد تقريبي للمفقودين في أحداث الثورة يقدر بنحو 1200 شخص.
وعن كيفة اختفاء هذا العدد، ولا سيما أن اختفاءهم يتعلق بتظاهرات كانوا مشاركين فيها، أو قُبض عليهم في كمائن للقوات المسلحة عقب انسحاب الشرطة في 28 كانون الثاني 2011، يرى أسعد أن اختفاءهم «إما أنه حصل من جانب أجهزة أمنية وجرى التخلص منهم بالقتل، أو سُجنوا بأسماء وهمية حتى لا يجري التعرف إلى هويتهم، أو سجنهم بدون أوراق ثبوتية» أو تغيبوا في ظروف أخرى.
وأوضح هيكل أنه بحسب القرار الجمهوري القاضي بتشكيل اللجنة، تلتزم كل الجهات تقديم الدعم للجنة. وفي حال امتناع أي من هذه الأجهزة عن تقديم المعلومات المطلوبة منها ستُتَّخذ الإجراءات القانونية ضدها.
ويبقى أن دور اللجنة جمع المعلومات فقط، وليس من بين الصلاحيات التي منحها إياها رئيس الجمهورية أن تقوم بتفتيش السجون. ويوضح هيكل أن «التفتيش على السجون من أعمال النيابة العامة، وبالتالي لا يمكن أن نقول تفتيش على السجون، ممكن نتقصى الحقائق ونجمع معلومات عمن دخلوا في قضايا لا علاقة لها بالثورة أو من احتُجزوا من دون سبب واضح».
لجنة الحريات في نقابة الصحافيين حاولت، بدورها، المساعدة في الملف. في أثناء الثورة، كانت لديها لجنة تستقبل البلاغات بخصوص الشهداء أو المصابين والمفقودين، واستقبلت بالفعل عدداً من البلاغات عن مفقودين. وقال عضو في اللجنة إنه «كانت تلك البلاغات تُحوَّل إلى الشرطة العسكرية في حينها». كذلك استضافت نقابة الصحافيين في آب الماضي، مؤتمراً لإعلان تدشين حركة «هنلاقيهم». وهي حركة تسعى إلى البحث عن مفقودي الثورة منذ كانون الثاني 2011 وحتى الآن، والعمل على عودتهم.
وتقول الحركة، التي يحمل اسمها تحدياً وأملاً في الوقت ذاته، إن هدفها «تكوين حركة مصرية تقوم بعدة حملات لتحفيز الرأي العام وللضغط على الجهات الرسمية المسؤولة عن الخطف لإعلان مصير الثوار المفقودين». نرمين يسري، منسقة «هنلاقيهم»، قالت لـ«الأخبار» إنها تتوقع أن أغلب المفقودين حالياً هم معتقلون لدى أجهزة أمنية، سواء في الداخلية أو الشرطة العسكرية. وتضيف: «من بين الذين حصلوا على إفراج رئاسي أخيراً طفل يبلغ 15 سنة، وكان يعد ضمن المفقودين، لأنه لم يكن مسجلاً لدى السجلات الرسمية». وتشير نرمين إلى أنه حتى لو كان المفقودون قد توفوا، فلا بد أن يعرف أهلهم أماكن جثثهم وسبب وفاتهم. وتضيف: «إحنا في بلد محدش بيختفي في الهوا كده». وأشارت إلى أن الحركة بعثت برسالة إلى رئيس الجمهورية، محمد مرسي، تشكو له تقاعس الحكومة عن متابعة ملف المفقودين، وتطالبه بالعمل على مساعدة تلك الأسر.
من جهته، يقول أحمد سيف الإسلام حمد، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان وعضو لجنة الإفراج عن المعتقلين، التي شكلها الرئيس مرسي، إن حملة «هنلاقيهم» أرسلت إليهم في اللجنة أسماء 60 شخصاً للاستعلام عنهم ما إن كانوا معتقلين أو لا. وأضاف: «استعلمنا من النيابة العسكرية ووزارة الداخلية وقالوا إن تلك الأسماء غير موجودة لديهم». ويرى حمد، وهو أحد أقدم الحقوقيين المصريين، أن السبب وراء صعوبة الكشف عن مصير المفقودين، أنه «ملف اتنسى وأتفتح مؤخراً». ويشير إلى أنه لو قُتلوا «غالباً مش هنعرف نوصلهم»، لكن لو كانوا موجودين في أماكن احتجاز غير رسمية مثل معسكرات الأمن المركزي أو في سجون مباحث أمن الدولة السرية، أو في مقارّ الاستخبارات العامة «يبقى الأمل موجوداً»، فيما تستمر حيرة أسر المفقودين.
فالمؤسسات الرسمية كالداخلية ومصلحة الطب الشرعي التابعة لوزارة العدل ليس لديها معلومات عنهم، واللجنة التي شكلت بقرار رئاسي أيضاً لا معلومات لديها ولا تتمتع بأي صلاحيات تمكنها من القيام بعملها، ومجهودات المنظمات المدنية لم تصل إلى شيء هي الأخرى. وحتى محاولات مجموعة النشطاء لم تصل إلى شيء حتى الآن.
لذا تبقى سيناريوات ثلاثة عن مصير المفقودين في الثورة وما بعدها. الأول أن هؤلاء بالفعل ماتوا، ودُفنت جثثهم في أماكن مجهولة، أو أنهم محتجزون لدى أجهزة أمنية لم تعلن عنهم حتى الآن، وقد يكونون معتقلين في سجون حربية أو سجون سرية، ولا سيما أن التفتيش على السجون لا يحصل بصفة دورية. أما السيناريو الثالث، فيتمثل في أن يكون هؤلاء قد فقدوا عقلهم بعد الإفراج عنهم ولا يستطيعون العودة إلى ذويهم، على غرار قصة الشاب الذي عُثر عليه بملابس ممزقة فاقداً الذاكرة في إحدى قرى الجيزة، ووجده أحد أقاربه بالصدفة.



أعداد متباينة

جاء في الرسالة التي قدمتها حركة «هنلاقيهم»: «فجأة توقفت الحكومة عن متابعة ملف المفقودين، واستطعنا بالجهود الشعبية جمع معلومات طفيفة عن تهديدات يتلقاها أهل بعض المفقودين أو بعض الشباب الذين نذروا أنفسهم لقضية العثور على مفقودي الثورة تخبرهم أن عليهم التوقف عن البحث ولا نعلم لماذا». وتحدثت الرسالة عن تلقي ذوي المفقودين اتصالات تخبرهم أن أبناءهم «محبوسون في مكان ما، ثم ينقطع الاتصال والمعلومات والأخبار». وتطرقت الرسالة إلى حالة أحد المفقودين «عثرنا عليه في تموز 2011 بعد ستة أشهر من اختفائه لنكتشف أنه كان محتجزاً في سجن وادي النطرون من دون تسجيل في الدفاتر الرسمية». وتقول الحركة إن أحد أعضاء حكومة عصام شرف، أعلن في آذار 2011 أن عدد المفقودين 1200 شخص، لكن الحركة تقول إن بعد هذا الإعلان كُشف عن شهداء مجهولي الهوية، ومعتقلين في سجون عسكرية، بما يشكك في صحة الرقم حالياً. ربما حسب تلك الإحصائية يكون العدد انخفض، إلا أن تسجيل حالات اختفاء حصلت في أحداث ما بعد الثورة، يشير على الأرجح إلى أن الأعداد زادت على ذلك.