تناور السيارة بين يمين الشارع ووسطه. تحاول اجتياز المركبات التي ملأت الخط الطويل باتجاه «الصنائع». لا عبثية مع وقتٍ يحاول فيه الاستقلال عن عقارب الساعة، هذا درس لكل من يجتاح العاصمة بيروت، معتقداً أن المسافات القصيرة يمكن اجتيازها بسهولة.نستغل الزحمة في الحديث عن الرجل المدعو إلى العشاء. لا أحد منّا يعرف من يكون، لكننا متفقون على أننا على موعد مع شخص مهم.

■ ■ ■



تستوقف العابرين نبتة علّيق متسلقة حائط بناية شاهقة، في ناحية ما من نواحي بيروت. نشهق للحظة حين ننتبه إلى ضوء المركبات المنعكس على زجاج المبنى، كالنجوم.
في أعلى البناية تسكن سيدة فلسطينية جميلة، تحتضن زوارها بعاطفة أم. يساعدنا التيار الكهربائي، الحاضر الغائب، في الوصول إلى الأعلى بإستخدام المصعد، هنا نحاول ترتيب مظاهرنا أمام المرآة لاستقبال الشخص المهم.
يفتح الباب أخيراً فتتقدم السيدة لاحتضاننا وفي عينيها فرح غير مكتمل، إذ يبدو أن الشخص المدعو للعشاء سيوقظ في ذاكرتها الكثير من الأيام التي قضتها مع الرفاق أيام النضال.
بعد قليل يقرع الجرس. تفتح السيدة الباب لتحضن رفاقها بعد شوق طويل.
نتقدم باتجاه الرجل الذي نجا بأعجوبة من محاولة إسرائيلية لاغتياله عام 1972. ننظر إلى الندوب العميقة في وجهه، وإلى الأصابع الست التي تبقت له، نحاول تعريفه بأنفسنا، فيعتذر عن فقدان جزء كبير من سمعه بسبب الانفجار ويطلب «عَلّو صوتكن رجاءً».
لسنا من أبناء ذلك الجيل الذي رافق الحكيم جورج حبش، ووديع حداد الذي استشهد مسموماً. ولا من الذين عهدوا الشهيد الحاج عماد مغنية شبلاً في قوات الـ17، ومع ذلك، حين قال الرجل إسمه دُهشنا أننا في حضرته.
تناولنا العشاء اللذيذ على طاولة الأم الفلسطينية. انتظرنا الرفيق لينهي أكله، لنسأله كل الأسئلة التي خطرت في بالنا، ولندردش في المساحة المسموح بها ونسمع عن ذلك الزمن الذي عايشوه.

يجلس الرفيق بسام أبو شريف في الجهة اليسرى، نلتم حوله كأنه موقدة الدفء في عز الشتاء، كل منّا ينتظر دوره للجلوس الى جانبه.
جاء دوري أخيراً، اقتربت من أذنه وسألت:
_ما الذي سيحدث في فلسطين؟ الاستخبارات الإسرائيلية قالت إن الأمور بدأت تهدأ، لكنها ستعود إلى الواجهة لتنفجر بعد بضعة أشهر، فما رأيك؟
يظهر غضب الرفيق، ويجيب:
_ الاستخبارات الإسرائيلية اليوم أغبى مما نتصور. هل يستوعب عقلك أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فوجئت بالهبة؟ هذا ما يقولونه، فوجئوا، تخيلي! يا بنتي، الإسرائيلي مش فهمان إنو في الخليل عشائر عديدها 100 ألف، هالعشائر ممتدة من تونس الى فلسطين. إذا الإسرائيلي قتل واحد منهم قباله حيروح ثلاثة مستوطنين لو كلف هذا انقراض العشيرة عن بكرة أبيها. في أمور الإسرائيلي مش فهمانها صح، شو يعني جنوده يعتدوا على بنات العشائر، بعيداً عن الشق الوطني، الإسرائيلي عم يدخل حاله بمتاهات ودهاليز.
يشعل الرفيق سيجارةً، يأخذ نفساً طويلاً منها، ثم ينفث دخانها في الأجواء ويردف:
_ ديّان (وزير الحرب الإسرائيلي موشيه ديان) فهم هذه المسألة بشكل جيد، على خلاف نتنياهو طبعاً.
ما يحدث اليوم هو أنّ طفلاً يحمل سكيناً من مطبخ أمه وينزل إلى الشارع، يطعن أي جندي أو مستوطن يقابله. يطلقون النار عليه فيستشهد. واحد عارف حاله ميّت عم تستوعبي؟ التظاهرات التي تنظّم بالقرب من مستوطنة «بيت إيل»، مدروسة وليست عفوية، طلاب الجامعات، وأبناء مخيم الجلزون يعرفون أن جميع الإدارات والمؤسسات الخاصة بالمستوطنات في الضفة موجودة في «بيت إيل»، وبالتالي يلجأ المستوطنون إليها لإتمام المعاملات الرسمية. يعرف الشباب جيداً أين يذهبون والآتي أعظم.
الفصائل حتّى الآن لم تدخل على الخط، غير أن كوادرها يشاركون كأفراد من الشارع. والجميع متفق على أن هذه الهبة يجب ألّا تهدأ، لذلك فالشارع سيجر، مستقبلاً، الفصائل الفلسطينية. وسترون بالفعل أن الأدوات التي ستستخدم في القضاء على الاحتلال لم تكن تستخدم مسبقاً.
«يا الله بتذكروا غسان كنفاني قبل بيوم من استشهاده؟»، سألت السيدة الجميلة، وهي إبنة أخت الحاج أمين الحسيني. تنفجر الدموع في عينيها الخضراوين، وهي تستذكر غسان ووداعه الأخير في بيت «أبو السعيد».
_أتذكره منتعلاً حذاءً رياضياً مزيّناً بالورود، وقتها كان في عرس حدا من القرايب وكانوا يزينو هيك بالورود. كان غسان كئيبا يومها.
تتناول كأس الماء، محاولةً ابتلاع الغصّة.
تتابع:
_ وقتها غسان قال بكرا راح يغتالوني، ليكو صباطي كلو ورد متل القبر! وبالفعل اغتالوه بعد يوم من ذلك.
يمّد الرجل أصابعه المتبقية، يتناول القداحة عن الطاولة ليشعل سيجارة. يقول:
_ يستطيع أي خبير في التصوير أن يمعن في الصور التي التقطت قبل وقوع الانفجار بقليل ويحدد من أي شقة في البناية المواجهة للمكان الذي اغتيل فيه غسان، جرت العملية لكن ما حدا بده الحقيقة تظهر.
تقبض السيدة الفلسطينية على الكأس في يد واحدة، ثم تقول بغضب:
_ ثلاث قيادات راحو بليلة واحدة! لك أي تنظيم هذا؟ كمال عدوان، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار. أخ! كان في بيناتنا عملاء لإسرائيل بكل تأكيد، لكن لم تتم محاسبة أحد.
«أنا حذّرت أبو علي مصطفى، الله يرحمه، قلت له ما تروح على مكتب الجبهة الشعبيّة، من يقرأ الإسرائيلي جيداً يعرف خطوته المقبلة. المكتب كان مكشوفا، حذرته على التلفون. وبعدين إجا خبره وصار أبو علي شقف»، يقول الرفيق بسام.
تقاطع السيدة اللبنانية هُنا، لأن النوستالجيا موجعة، ضاحكة تتوجه بحديثها إلى السيدة الفلسطينيّة.
_بتتذكري لما وصلنا لعندك على كراتشي، وما كان معانا فيزا؟
_لك إيه بتذكر، يا الله كيف وقفكن الضابط وقلكن كيف دخلتم بلا فيزا، وبسام قاله إذا بدك احبسني!

■ ■ ■


تقترب الساعة من العاشرة والنصف. من الشباك تظهر سماء بيروت معتمة. لفحة برد خفيفة تلامس خدودنا.
نقف لوداع الرفاق. بسام عائد إلى أريحا، يسألني إن كنت أريد شيئاً من بلادي. أحضن الرفاق واحداً واحداً، ملقيةً السلام الأخير.
أضواء أقل تنعكس كالنجوم على نوافذ البناية الشاهقة. بيروت ذهبت لتخلو بنفسها في إحدى زوايا «الحمراء». الشارع فرغ تقريباً من المركبات. والسيارة بدأت تسير بثبات على خط واحد باتجاه الجنوب. أستذكر عبارة بسّام، عن حزب الله : «سيدخلون إلى الجليل، وهناك من سيقول لهم أهلاً بكم»!