دمشق | تعيش مجمل الأسر السورية في شهر أيلول، من كل عام، جملة من الأحداث والتفاصيل الخاصة، تميز هذا الشهر عن بقية أشهر السنة. تنشغل النسوة في إعداد مؤونة الشتاء، من مأكولات شعبية لا تفارق المائدة في الشتاء الطويل، أكثرها شهرة المربيات والمكدوس ودبس البندورة وغيرها. لكن أحداث الأزمة السورية المستمرة منذ ما يقارب 18 شهراً، أثرت على عادات وطبيعة الحياة، حتى في المناطق التي تعيش اليوم هدوءاً نسبياً. غابت عن الأسواق الدمشقية هذا العام البندورة الدرعاوية، والباذنجان الحمصي، والفليفلة الحلبية التي يزداد الطلب عليها بكثرة، كونها تعتبر مواد أولية لتحضير المؤن. ويشرح أبو محمد، أحد كبار تجار سوق الخضار في دمشق، أنه «لا أحد يغامر اليوم في زراعة هذه الخضروات». ويشير إلى أن «المزارعين قطعوا الأمل من تسويق محاصيلهم، فغالبية الطرق المؤدية الى العاصمة دمشق مقطوعة أو غير آمنة».
ويبقى الاستعداد لافتتاح المدارس أبوابها لاستقبال مئات الآلاف من طلاب جميع المراحل الدراسية الحدث الأبرز في الشهر الأول من فصل الخريف. وتشير الإحصائيات الرسمية التي قدمتها وزارة التربية السورية إلى تضرر أكثر من 2000 مدرسة حكومية تابعة لها كلياً أو جزئياً، نتيجة الحرب الدائرة على جميع الأراضي السورية، فضلاً عن انشغال حوالى 796 مدرسة أيضاً، بإيواء النازحين من المناطق المشتعلة. هذا الأمر يزيد من حجم الصعوبات مع بداية العام الدراسي، بعدما أصدرت الجهات المعنية في وزارة التربية تعليمات تقضي بإفراغ جميع المدارس من النازحين، محاولةً بدورها إيجاد بدائل بالتعاون مع الجهات المعنية في الحكومة السورية لمعالجة هذه الأزمة التي تزداد يومياً. ومن بين الاقتراحات نقل النازحين إلى الصالات الرياضية، أو معسكرات الطلائع والشبيبة. كما أصدرت وزارة التربية السورية مجموعة من التعليمات الجديدة، بخصوص المعلمين التابعين لها الذين يقطنون في مناطق التوتر والمواجهات المسلحة، أو يجب عليهم قطع مسافات طويلة للوصول إلى أماكن عملهم، مراعيةً «أوضاعهم الإنسانية». ووعدت بنقلهم إلى مدارس قريبة من مكان إقامتهم، حسب الأولوية التي ستعطى «لأسر الشهداء ومن ثم المعلمات المتزوجات، والعازبات والمعلمين الذين أدوا مدة سنوات الخدمة الخمس في الأرياف أو المناطق النائية، حسب قانون التعليم في سوريا».
لكن أزمة التعليم بمختلف مستوياته تعيش فصولاً كثيرة مختلفة وبعيدة عن الحدود التي وقفت عندها وزارة التربية، التي لن تطالب طلاب مختلف المراحل بارتداء اللباس الرسمي، لأسباب تتعلق بالأوضاع الأمنية.
فطلاب المدارس السورية يمتلك كل منهم إضبارة خاصة تحتوي على نتائج سنوات الدراسة، لكن أعداداً كبيرة من الطلبة السوريين فقدوا إضباراتهم هذه، بعدما دمرت مدارسهم، فيما يعجز قسم آخر عن الحصول عليها لعدم قدرة أهالي الطلبة النازحين على الوصول إلى مدارس أبنائهم بسبب الأحداث والمواجهات المسلحة المستمرة.
أبو مصطفى، النازح من ريف محافظة حمص، يعجز اليوم عن إرسال أطفاله الثلاثة إلى المدرسة. ويروي معاناته قائلاً «بذلت جهداً كبيراً في محاولاتي المستميتة لإقناع مدير المدرسة من أجل تسجيل أطفالي قبل بدء العام الدراسي». ويضيف «لم أتمكن من الحصول على إضباراتهم، فمدرستهم السابقة احترقت بالكامل، أما الحصول على أوراق بديلة فيتطلب مني الوصول إلى مديرية التربية في حمص، وبالطبع هذا من المستحيل تحققه اليوم».
وفيما حرم أولاد أبو مصطفى من المدرسة، كان أمس الأحد اليوم الأول في العام الدراسي في سوريا. مئات الآلاف من الطلاب السوريين خرجوا صباحاً من منازلهم متجهين إلى مدارسهم، لكن لم يختلف يومهم الدراسي الأول عن أيام عطلتهم الصيفية، عندما بقيت أجواء الرعب والحذر والترقب مسيطرة على حصصهم التعليمية. وفرضت الأحداث الأمنية على الغالبية العظمى من أهالي الطلاب اصطحاب أبنائهم إلى مدارسهم عند الصباح، والعودة عند الظهيرة لاصطحابهم مجدداً إلى المنزل. يقول نزار، الموظف الحكومي الذي اضطر الى تقديم إجازة ساعة من وظيفته، ليحتشد مع عشرات الأهالي على باب إحدى المدراس الدمشقية، منتظراً ساعة انصراف أطفاله : «إنها مهمة جديدة اتفقت مع زوجتي الموظفة على تقاسم معاناتها. اختارت زوجتي مرافقة أبنائنا الأربعة إلى مدارسهم صباحاً، وأنا أعيدهم إلى المنزل ظهراً». ويضيف «لا أستطيع احتمال فكرة حصول حادث أمني بالقرب من مدرسة أطفالي وأنا بعيد عنهم».
وبينما تفضل في العادة أعداد كبيرة من طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية مدارس العاصمة دمشق عن مدارسهم في الأرياف المحيطة بها، كونها تتميز بكادرها التدريسي الجيد، اصطدموا صباح أمس بمشكلة لم يعهدوها من قبل. وروى مفيد، طالب الشهادة الثانوية في مدرسة قريبة من منطقة البرامكة، توقفهم حوالى ثلاث ساعات عند حاجز أمني، بالقرب من مطار المزة العسكري. وأضاف «عندما وصلت إلى المدرسة، كانت الحصة الثالثة قد انتهت تقريباً»، مشيراً إلى أن «حاجزاً واحداً سيجبرني على الخروج من منزلي الساعة الخامسة صباحاً، كي أصل قبل بداية دوامي بدقائق قليلة».
أزمة الانتظار الطويلة على الحواجز الأمنية أصابت بدورها المدرسين العاملين في المناطق المحيطة بدمشق، الذين بدأ دوامهم الرسمي قبل أسبوع من طلابهم. وتحدثت هيام التي تقضي حوالى 5 ساعات يومياً على الحواجز في ذهابها وعودتها عن معاناتها، مشيرةً إلى أنها تقف على 11 حاجزاً أمنياً كل يوم قبل وصولها إلى عملها.
هذه المعاناة لم تمنع حركة البيع النشيطة في أسواق القرطاسية، التي تنتشر في منطقة «الحلبوني» القريبة من ساحة المرجة وسط دمشق، أو سوق «المسكية» أحد فروع سوق الحميدية الأثري الشهير. لكن أصحاب هذه المحال يعيشون خيبة أمل كبيرة، وخصوصاً أن حركة البيع لم تبلغ ربع ما كانت عليه قبل الأحداث»، وفقاً لما يؤكده أبو حسن صاحب متجر لبيع القرطاسية في سوق المسكية. ويضيف «هناك أصحاب مكتبات في الأرياف والمناطق النائية يشترون بضاعتهم بالجملة من متجري كل عام، حتى حجم مشترياتهم انخفض إلى ما دون النصف. على ما يبدو، لا أحد منهم يريد المغامرة في كساد بضاعته».