ما زلت اذكر المرة الاولى التي ذكرت امامي عبارة مجزرة صبرا وشاتيلا، كنت ابلغ من العمر عشر سنوات. حينذاك كانت والدتي تزور صديقتها في مخيم شاتيلا، وكلما غصنا اكثر في ازقة المخيم كانت والدتي تشير قائلة: «هنا ايضا كان في جثث.. هنا حصلت المجزرة». لم أكن اعرف حينها «شو يعني مجزرة»، ولم اكن اعرف عن اي مجزرة تتكلم اصلا وبحق من ارتكبت! بقيت هذه الاسئلة تدور في رأسي ولم احولها الى كلمات، لانني ببساطة لم اكن مهتماً بالموضوع، فقد كنت هنا غصباً عني، ولم اكن اريد أن «اضهر» مع والدتي بينما اولاد خالتي يلهون في «الحيّ» بدوني.
في منزل صديقتها، وعلى الغداء طلبت والدتي من ام محمد ان تعيد على مسامعي كيف نجت وعائلتها من المجزرة؟ ربما أرادت والدتي اللبنانية أن تعرفني على تاريخ شعبي. هكذا، بدأت المرأة بسرد قصتها، وكيف تمكنت هي واولادها من الهرب عبر كوة كانت مفتوحة بين حائط منزلها ومحل زوجها الملاصق للبيت. خلال الحديث اغرورقت عينا المرأة بالدموع ولم اكن افهم سبب ذلك. تكمل السيدة حديثها مشيرة الى الحائط خلفها وتقول «هنا كانت الفتحة، اختبأنا في المحل، ومنه انطلقنا هاربين باتجاه الدنا حيث لم يكن عناصر الكتائب قد وصلوا بعد». تروي ام محمد كيف كانت خلال اختبائها تسمع صراخ الكتائبيين وهم يطلقون النار. تدمع عينا والدتي ايضاً. تقاطع صديقتها قائلة «شاهدت المجزرة في التلفزيون. لم اكن اصدق ما تراه عيناي». تكمل ام محمد روايتها «بعد انتهاء المجزرة عدنا الى شاتيلا، وجدت جثث جيراني على حائط منزلي وقد رسم فوقها شعار الدلتا» تقصد شعار القوات اللبنانية.
هذه التفاصيل وكل الرواية لم تهمني، فقد كان كل همي ان الغداء «ما عاجبني». مرت الايام واصبحت مراهقاً شاباً، عادت مجزرة صبرا وشاتيلا لتظهر مجدداً، لكن هذه المرة من نافذة وثائقيّ اعدّته قناة الجزيرة عن حرب لبنان. اذكر خلال مشاهدتي للحلقة كيف انهمرت دموعي وحدها. حاولت جاهداً ان أمسك نفسي فقد تربينا على مقولة «عيب على الرجال تبكي» لكني لم استطع. بعدها، قررت ان اقرا اكثر عن المجزرة لمعرفة تفاصيل من نوع: لماذا ارتكبت؟ وكيف يستطيع انسان، اي انسان، ان يتحول الى حيوان يسير على قدمين ترتكب يداه ما ارتكب في شاتيلا؟
هكذا، قرأت اغلب الكتب التي أرّخت حرب لبنان، كما شاهدت اغلب الافلام الوثائقية التي تحدثت عن مجزرة صبرا وشاتيلا. لكنني، حتى الآن لم افهم كيف يمكن لأي بشري ان يفعل ما فعله هؤلاء! ما جرى كان حفلة جنون جماعي. هؤلاء القتلة كانوا اشبه بمجموعة تماسيح جائعة تنهش جثة فريسة سقطت في النهر. قد يقول احدهم ان ما جرى هو انتقام لمقتل قائد القوات اللبنانية بشير الجميل لتبرير هذه الفعلة. لكن الانتقام لا يكون بقتل ما بين 3 آلاف و5 آلاف شخص وعلى مدى اربعين ساعة.
واذا سلمنا جدلاً بمنطق الثأر، فإن للثأر قواعد لمن لا يعرف، ففي منطق العشائر يكون الثأر، ان لم يتفق على دية، بقتل القاتل او احد افراد عائلته بأسوأ تقدير. وقد يصاب بالخطأ، ابن عمه او قريب له كان معه «ماشي الحال»! لكن... خمسة آلاف شخص! هذا يسمى جريمة ضد الانسانية او جريمة تطهير عرقي. لا بل ان من نفذوا العملية لا يمكن ان يكونوا بشراً غاضبين وطالبي ثأر، فما اقترفته آلات القتل تلك من جرائم «مبتكرة» بفظاعتها، لم تخطر حتى على بال مصدر وحي مؤسس حزب الكتائب اي هتلر. قيل عن هؤلاء انهم اخذوا حبوب هلوسة ولم يكونوا بكامل وعيهم. لكن «اتخن» حبة مخدر يبقى مفعولها بضع ساعات، وليس يومين وثلاثة. اذا، ما جرى في صبرا وشاتيلا كان جريمة ضد الانسانية ارتكبت بكامل القوى العقلية لهؤلاء.
في هذه الفترة تكثر الزيارات الى مقبرة شهداء المجزرة. مقبرة تكون منسية ومهملة طوال العام. لكن وبمجرد اقترابك من بابها في اي يوم كان يمكنك ان تشعر برهبة المكان. ففي المقابر العادية هناك شواهد عليها اسماء الموتى، ومكان وزمان ولادتهم، لكن في مقبرة شهداء شاتيلا كل شيء مجهول. الاسماء غير معروفة، العدد الدقيق للشهداء غير دقيق، اما المعلومة الوحيدة فهي هوية القاتل والحزب الذي ينتمي اليه. حزب تلوثت يداه بدمائنا ويحاول في ايامنا هذه اقناعنا ان القضية الفلسطينية قضيته «والقرآن».
في شاتيلا وصبرا لا تزال ارواح الشهداء معلقة بين السماء والارض، تطلب العدالة. ثأر جاء بعضه ربانياً، حيث ان أغلب المسؤولين عنها ماتوا اما غرقاً (رفائيل ايتان) او تفجيراً (ايلي حبيقة) او بالسرطان (سعد حداد) او دخلوا مثل شارون غيبوبة ربما أراد الله لها ان تطول ليشاهدوا طوال مكوثهم ذاك بين الحياة والموت وجوه ضحاياهم (ارئيل شارون).