الدار البيضاء | أثارت تصريحات رئيس الحكومة المغربية، عبد الإله بنكيران، الكثير من الجدل والنقاش داخل الساحتين السياسية والإعلامية المغربيتين، عندما قال بأن فلسفته في التعامل مع الفساد هي «عفا الله عما سلف». المعارضون اعتبروا كلام بنكيران تعبيراً عن عجز في مواجهة الفساد، ومؤيدوه رأوا فيه تراجعاً عن الوعد الذي حمله الحزب خلال حملته الانتخابية، التي اتخذ لها شعاراً واحداً هو «محاربة الفساد».
ونتيجة الإحراج الذي سببته هذه التصريحات من إساءة إلى صورة أول حزب ذي مرجعية إسلامية يرأس الحكومة لدى الرأي العام المغربي، وصل إلى حد الاستهزاء برئيس الحكومة وفريقه الحكومي على صفحات المواقع الاجتماعية على الإنترنت، بادر بعض قادة الحزب إلى توضيح موقف حزب «العدالة والتنمية» من محاربة الفساد، واحتواء الأضرار التي ألحقتها تصريحات رئيسه بصورته لدى الرأي العام.
موقف بنكيران الجديد تماشى مع موقف حزب «العدالة والتنمية» الرافض للتحرك الشعبي إبان الدعوات إلى التظاهر ضد الفساد في بداية «الربيع العربي». واعتبر الحزب حينها أن مطلب إسقاط الاستبداد فيه استهداف مباشر للنظام الملكي القائم.
وأكثر من ذلك، أعلن الحزب يومها إيمانه بالإصلاح من الداخل انطلاقاً من كونه صاحب إيديولوجية إصلاحية، فرفع خلال حملته الانتخابية شعاراً واحداً يقول بـ«إسقاط الفساد». ولا يزال الحزب يعتبر أن محاربة الفساد يمكن أن تتحقق من الداخل، وبالحفاظ على استمرارية النظام القائم الذي لا يزال منتقدوه يصفونه بالاستبدادي ويرون أن طابعه الاستبدادي هو الذي يحمي ويشجع على استشراء الفساد.
وكان موقع ويكيليكس قد كشف في إحدى الوثائق التي صدرت قبيل اندلاع ثورات «الربيع العربي»، أن الفساد أصبح «مؤسساتياً» في المغرب، وتحميه وترعاه أكبر مؤسسة في المغرب «المؤسسة الملكية». وذكرت إحدى الوثائق المسربة أن أصحاب الصفقات الكبيرة كان يجب عليهم المرور عبر ثلاثة أشخاص يتحكمون باقتصاد المغرب، هم: محمد منير الماجدي، الكاتب الخاص للملك، فؤاد عالي الهمة، صديق الملك ومؤسس حزب «الأصالة والمعاصرة» والملك نفسه. وبنت الوثيقة حكمها هذا على تصريحات لرجل أعمال يتحدث عن رشى وعمولات من أجل تمرير أحد مشاريعه العقارية.
طبعاً مثل هذه القصص والكثير منها موجود على جميع المستويات، يضاف إلى ذلك ما وصفته إحدى الوثائق بـ«الجشع» الذي يطبع رعاة هذا الفساد على مستوى عال داخل إدارات الدولة ومؤسسات الجيش وحتى في الأوساط الإعلامية.
ولم تكن الوثائق المسربة وحدها قد تحدثت عن وجود الفساد في المغرب، وإنما كانت أول من أشار مباشرة وعلانية إلى ارتباط الفساد بالقصر الملكي. أما على المستوى الرسمي، فالتقارير السنوية التي يضعها «المجلس الأعلى للحسابات في المغرب» تكشف عن استمرار الفساد والكسب غير المشروع داخل الإدارات والمؤسسات العمومية والشركات المملوكة للدولة.
وبالنسبة إلى منظمة الشفافية الدولية التي ترتب الدول حسب درجة الفساد المتفشي فيها، فقد صنفت المغرب خلال السنة الماضية في المرتبة الثمانين من بين 178 دولة لتأتي بعد تونس والسعودية.
أما هيئة حماية المال العام، وهي هيئة أهلية مستقلة، فقد قدرت الاختلاسات التي طاولت المال العام والثروات العمومية ما بين عامي 2000 و2010، بأكثر من 13.5 مليار أورو (135 مليار درهم مغربي)، عبارة عن اختلاسات وسرقات من صناديق عمومية وتبذير لأموال مؤسسات تابعة للدولة.
ورغم أنه يكاد يوجد اتفاق بين جميع مكونات الدولة والمجتمع المغربي على تشخيص حالة الفساد التي يعرفها المغرب، إلا أن الخلاف يكمن في مقاربة محاربة الفساد. فعندما اندلع الحراك الشعبي في المغرب، رفعت «حركة 20 فبراير» الشبابية شعاراً يطالب بعدم الإفلات من العقاب، وبضرورة استعادة الأموال المنهوبة. وهذا مطلب يزكيه حتى القانون المغربي الذي أصبح ينص على مبدأ عدم الإفلات من العقاب في جرائم الاختلاسات المالية.
وعندما تم تعيين أول حكومة يرأسها الإسلاميون في المغرب، استبشر الكثير من أنصار الحزب خيراً بحكومتهم، وخاصة بعد صدور إشارات من قبل بعض أعضائها على وجود إرادة لديهم لمحاربة الفساد. ولاقى قرار الحكومة في بداية عهدها، والقاضي بكشف لوائح المستفيدين من استغلال رخص النقل، والكشف عن قيمة الدعم الموجه لهيئات المجتمع المدني، الكثير من الترحيب في أوساط الرأي العام، وأثار نقاشاً حيوياً حول مدى قدرة الحكومة على إثارة ملفات فساد أكثر حساسية تخص قطاعات استراتيجية وتمس شخصيات نافذة.
ولإرسال إشارات تطمين إلى المطالبين برؤوس كبيرة متورطة بالفساد، أقدمت الدولة على الزج في السجن برؤساء مؤسسات كبيرة بتهمة الفساد، لكن بما أن ملفات تلك المؤسسات كانت معروفة قبل مجيء الحكومة الحالية، فلم يحسب مثل هذا الإجراء لصالحها، بل هناك من المراقبين من قرأ في ذلك محاولة من السلطة الممثلة في القصر، لسحب ورقة محاربة الفساد من حكومة الإسلاميين.
الحكومة اليوم برئاسة الحزب الإسلامي على المحك، فالحزب سبق له أن تعهد أمام ناخبيه بمحاربة الفساد. وطوال سنوات وجوده في المعارضة، بنى خطابه السياسي على إمكانية وأولوية الإصلاح من الداخل من خلال محاربة الفساد قبل الحديث عن تفكيك بنية الاستبداد.
لكن في أول اختبار للحكومة، اصطدمت مع أصحاب المصالح الكبيرة التي وصفها رئيس الحكومة في تصريحاته بـ«العفاريت» تارة و«التماسيح» تارة أخرى، ما دفعه في الأخير إلى القول بأن حكومته لم تأت لمطاردة الساحرات، في إشارة إلى بداية تراجع حزبه عن وعوده التي قطعها أمام ناخبيه.