دمشق | حالة غير مسبوقة من التشتت والضياع تعيشها أعداد كبيرة من العائلات السورية اليوم، بعد نزوحها أخيراً من مناطق المواجهات المسلحة، التي اتسعت مساحتها في الشهرين الأخيرين. ليس مستغرباً أن تلتقي بأب وبعض أفراد عائلته في مدرسة فتحت أبوابها للنازحين وسط العاصمة دمشق، بينما يخبرك أن بقية أفراد العائلة نفسها لجأوا إلى الأردن أو لبنان أو حتى العراق.يحاول أبو نزار اليوم اللحاق ببقية أفراد عائلته الذين لجأوا إلى الأردن قبل أيام، حاله مثل حال أعداد كبيرة من العائلات السورية التي حولت الأحداث الدامية أفرادها إلى لاجئين في دول الجوار، يعيشون ظروفاً حياتية صعبة جداً «في مخيمات تفقدك حرية قرارك، وتصبح تابعاً ومنفذاً للشروط التي تمليها الجهات المختصة عليك، بعد أن تؤمن لك الحد الأدنى من شروط الحياة. بمعنى أدق تؤمن لك المخيمات ما تحتاج إليه كي لا يدركك الموت ليس أكثر».
عامر، الشاب السوري المقيم في الأردن منذ سنوات طويلة، يتحدث بعد أن زار مخيم الزعتري للاجئين السوريين في مدينة المفرق الحدودية، الذي يضم نحو 30 ألف لاجئ، عن ظاهرة اجتماعية جديدة بدأت بالانتشار تحمل اسم «زواج السترة». ويقصد به تزويج الفتيات السوريات، حتى وإن كنّ صغيرات في السن، لأول من يتقدم للزواج بهن، بحجة الستر على شرفهن، من دون وجود شروط ضامنة لاستمرار هذا الزواج، لا شرعية ولا قانونية. ويكشف عامر أن «هناك عجوزاً أردنياً عمره 70 عاماً تزوج طفلة سورية عمرها 12 عاماً فقط».
«هل هناك أبشع من هذه الجرائم التي ترتكب بحق شعبنا السوري؟»، تساءل عامر، الذي أكد أن هذه الظاهرة ليست جديدة على أبناء المحافظات الحدودية بين سوريا والأردن. ولفت إلى أن «هناك عشائر وقبائل موزعة بين البلدين الشقيقين. هذا النوع من الزواج معروف قبل الأحداث السورية ولجوء أعداد كبيرة من السوريين اليوم، لكن شروطه مختلفة عن السائدة الآن». ويوضح أن هناك بعض العائلات السورية زوّجت بناتها عن طيب خاطر لأقاربها أو معارفها من الأردنيين حرصاً منها على بناتها، وتجنيباً لهن خوض تجربة المخيمات.
ظاهرة «زواج السترة» أثارت لدى نضال «31 عاماً» الفضول لإعداد دراسة اجتماعية ميدانية. رصد الشاب السوري المقيم في عمان، والذي يحمل شهادة في علم الاجتماع، حالات مختلفة من الزواج غير المتكافئ، اجتماعياً أو إنسانياً، وخرج بملاحظات مختلفة أهمها: «مع بدء رحلة اللجوء المقيتة من سوريا إلى الأردن، هرباً من أحداث العنف والقتل الدموي، كان من الطبيعي أن تدعو العائلات الأردنية التي لديها أقرباء في سوريا، أقرباءها إلى النزول عندها. بل أكثر من ذلك، وضعت العديد من العائلات الغنية، أو حتى المتوسطة الدخل، إعلانات عن وجود منازل مجانية للاجئين السوريين». لكن مع ازدياد العدد وتذرع الحكومة الأردنية بأنها بحاجة غلى موارد مالية من أجل تلبية احتياجات السوريين القادمين، كان افتتاح أول مخيم مع أول مساعدة من المجتمع الدولي للحكومة الأردنية، حيث نُصبت الخيم على الفور وبدأت الكارثة معها.
ويوضح نضال أن «ظاهرة «زواج السترة» هذه بدأت باتخاذ منحى خطير وسيّئ مع ازدياد صعوبة العيش في المخيمات، حيث بدأ السوريون بالبحث عن أي طريقة لإخراج أولادهم وإخراج أنفسهم من حياة الفقر والظروف الصعبة غير الإنسانية». ويضيف «في الوقت نفسه، استغل العديد من الأردنيين الطالبين للزواج ضعف السوريين في الأردن، حيث إن الزواج بفتاة سورية أرخص من الزواج بأردنية، أضف إلى ذلك أن الزواج من فتاة سورية عموماً هو شيء إيجابي في الأردن».
وفصّل الباحث السوري طبيعة الاعتقاد السائد اليوم في الأوساط الأردنية، أن الزواج من فتاة سورية «سوف يجعل الزوج مسهماً في الثورة السورية بنحو أو بآخر، وخصوصاً مع التأييد الشعبي الواسع للثورة السورية في الأردن».
مجمل الأزواج الذين يتقدمون للحصول على فتاة سورية «هم من الجنسية الأردنية. أما الجنسيات العربية الأخرى فهي قليلة جداً، بعكس ما يشاع في وسائل الإعلام المختلفة».
وفيما حاول نضال الاتصال بأصدقاء له على تواصل مع مخيمات اللجوء السورية، في لبنان وتركيا والعراق، للحصول على معلومات عن حصول ظواهر زواج مشابهة، حالت صعوبة الوصول إلى مخيمات اللاجئين في تلك البلدان دون ذلك.
من جهتهم، تفاعل نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي مع هذه الظاهرة التي تكرس جملة من المفاهيم الاجتماعية الخاطئة بحق كرامة الفتيات السوريات وإنسانيتهن. على موقع «فايسبوك» أنشئت صفحة تفاعلية حملت عنوان «لاجئات... لا سبايا»، دعا أصحابها إلى «حملة لحماية حقوق المرأة السورية، ومحاربة امتهان قيمة المرأة السورية، وتحفيز المجتمع الأهلي ورجال الأعمال لدعم المرأة السورية في مخيمات اللجوء أينما وجدت». ووصف القائمون على إدارة الصفحة في بيانهم الأول هذه الظاهرة بأنها «غريزة جنسية بحتة، وزواج مصلحي بحت، قائم على الجنس والمنفعة الجنسية، وهذا يدفعنا للتساؤل: لماذا لم يهبّ أهل النخوة من هؤلاء إلى ستر الصوماليات أو السودانيات من أهل دارفور؟». وتضمن البيان أيضاً تحذيرات من خطورة هذه الزواج مستقبلاً، ومناشدة لأصحاب الشأن والتشريع الحد من هذه الظاهرة.
لاقت صفحة «لاجئات... لا سبايا» تفاعلاً كبيراً من رواد الموقع الأزرق، وتعدى عدد المشتركين فيها 8000 مشترك، ولقيت اهتماماً كبيراً من وسائل إعلامية وصحف عربية وأجنبية مختلفة، التي أثارت هذه القضية.
في اتصال أجرته «الأخبار» مع المكتب الإعلامي للحملة في الأردن، أكد لنا أحد الشباب الناشطين، ضمن مخيم الزعتري الحدودي، أن عدد حالات الزواج المسجلة والموثقة رسمياً لدى مكتب الحملة لم يتعدّ 10 حالات حتى الآن. «لكن من الصعب ضبط جميع حالات الزواج المشابهة وتسجيلها. هناك حالات لم نتمكن حتى اللحظة من تسجيلها أو متابعها، لكونها تجري في الخفاء». كذلك سجلت حالة وحيدة حاول الزوج استغلال الفتاة التي تزوجها جنسياً «لكن الفتاة المغلوب على أمرها استطاعت الهرب، والوصول إلى المخيم بمساعدة فاعلي خير، وهي الآن بأمان بين عائلتها وأهلها». وأكد الناشط أن الحملة تضم في صفوفها متطوعين أردنيين وسوريين وفلسطينيين.
وأشار أيضاً إلى محاولات كثيرة لتضخيم القضية تقوم بها بعض الوسائل الإعلامية المختلفة، لاستثمار معاناة اللاجئين لمصلحة السياسات التي تنتهجها. وقال «نقدم معلومات وأرقاماً محددة لوسائل الإعلام التي تتواصل معنا، يزور مراسلوها مكتب الحملة، لكننا نفاجأ بالمبالغة في الأرقام والحقائق لدى نشرها لاحقاً».
بدورها، رفضت إدارة الحملة تقديم معلومات أو تفاصيل عن ظروف حالات الزواج الأخرى وملابساتها، لأسباب بررتها بأن«كشف تفاصيل محددة عن أي حالة مسجلة لدينا، سيحدث إحراجاً أخلاقياً للعائلة التي أرغمت على تزويج ابنتها. لكن القاسم المشترك بين جميع الحالات هو: الفقر الشديد، وغياب الوعي الاجتماعي لمخاطر هذا الشكل من الزواج في المستقبل».
من جهته، كشف موقع «إذاعة هولندا الدولية» عن وجود بعض المكاتب في ليبيا مسؤولة عن تزويج لاجئات سوريات. ووفقاً للموقع، تبيّن أن هذه المكاتب تسعى إلى التوفيق بين طالبي الزواج الليبيين ولاجئات سوريات. وتعتبر هذه المكاتب نفسها «مسؤولة أمام الله» عن هذه الزيجات. وكشف مدير أحد المكاتب أنه بعد تقدم الليبي بطلب للزواج ودفع قرابة 300 يورو لبدء المعاملة، يتواصل المكتب مع شخص من داخل المخيم الذي تؤدي زوجته دور الخطّابة وتقوم بالبحث عن الزوجة المناسبة، وفقاً للمواصفات التي طلبها الشاب.
وعلى أثر هذه الظاهرة والحملات لمواجهتها، استجاب بعض رجال الدين في الأردن والبلاد العربية، عندما أصدروا فتاوى دينية تحرم شرعية هذا الشكل من الزواج. لكن تبقى الوسائل الممكنة للحد من هذه الظاهرة على الأرض محدودة جداً، كما علّق الصحافي والكاتب السوري عدنان أزروني. وقال «حسناً، المرأةُ السّوريّة اليومَ لاجئةٌ! لا بدّ من صرخةٍ قويّة تخرج من داخل المخيمات وخارجها. لا لتدخل رجال الدين في موضوع اللاجئات. ولا لتجّار الأزمات. لا لجعل المرأة السوريّة ضحيةً مرّتين. وحدكِ أيّتها المرأة السّوريّة في المخيّمات، وحدك من تقرّرين، إمّا أن تكوني لاجئة بالعرف الديني والتبعي، أو أن تكوني امرأة وقبل ذلك إنساناًَ، فلتصرخي وسنصرخ معك».



قلق أممي


في تصريح إلى شبكة الأنباء الإنسانية «آيرين»، قال دومينيك هايدي، الممثل المحلي لصندوق الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف»، إن الصندوق يدرك مشكلة تزويج القاصرات السوريات في الأردن. وأضاف «إننا قلقون بشأن الزواج المبكر الذي يستخدم كآلية للتأقلم مع الأوضاع». من جهته، كتب الصحافي السعودي محمد العصيمي، في جريدة «اليوم» السعودية، مقالة بعنوان «العار: الزواج من سورية نازحة». ووفقاً للكاتب، فإن الأمر تجاوز حالات فردية وتحول الى ظاهرة تنتشر «بمنتهى الاندفاع والعار» إلى درجة أن صاحب صفحة «سوريات مع الثورة»، أعلن لزوار صفحته، الساعين بمنتهى (الحميمية) خلف شهواتهم، عدم قبول أي طلبات زواج، راجياً من الجميع ألا يرسلوا هذه الرسائل «لأن الوقت مو وقت زواج عنّا.. سوريا في حالة حرب».
(الأخبار)