الدار البيضاء | بمناسبة احتفاله السنوي بذكرى تولّيه المُلك، في ما يعرف في المغرب بـ«عيد العرش»، امتطى الملك المغربي محمد السادس صهوة جواده، وخرج من بوابة قصره في طقس احتفالي يعود إلى عشرات السنين، يطلب من أعيان ومنتخبي وكبار رجال الدولة وضباط جيشها، تجديد مبايعته من خلال الانحناء أمامه ثلاث مرات في ما يشبه الركوع. وقد اكتسى الجميع باللباس المغربي التقليدي الناصع البياض، علامةً على الطاعة والولاء.
هذا الطقس الذي يطبع ما يسمى في المغرب «حفل الولاء»، لم يعد يجد في البلاد نفس الإجماع الذي كان يفرضه الخوف على الأغلبية الصامتة. وبدأت أصوات كثيرة ترتفع للمطالبة بإلغاء الطقس أو على الأقل تخفيفه كما يفعل بعض الناصحين للملكية، وعلى رأسهم رئيس الحكومة الإسلامي، عبد الإله بنكيران، الذي سبق له عندما كان في المعارضة أن اعتبر أن هذه الطقوس لا تتماشى مع القرن الواحد والعشرين.
كان ذلك قبل أن يتولى بنكيران رئاسة الحكومة، ويصبح هو وحزبه، مع وجود بعض الاستثناءات، من أكبر المدافعين عن هذه الطقوس التي يقول معارضوها إنها تهين كرامة المغاربة، فيما يرى مؤيدوها أنها تجسد تقليداً مغربياً يزكون به دفاعهم عما يصفونه بـ«الخصوصية المغربية» و«الاستثناء المغربي».
هذا النقاش حول «الطقوس» الذي كان شبه محظور في الماضي، تحول اليوم إلى نقاش علني على صفحات المواقع الاجتماعية على الإنترنت، وإلى استعراض للقوة في الشارع، عندما بدأ الشباب المغربي المتأثر بثورات الشباب العربي في دول مثل تونس ومصر، يخرج إلى الشارع ويرفع شعار «عاش الشعب»، كتحدٍّ للشعار التقليدي الرسمي الذي يختتم شعار المملكة بتحية «عاش الملك». لكن غالبية الشعب لا تزال صامتة والكثير من النخب والأعيان وكبار أطر الدولة، يبررون الحفاظ على هذه الطقوس وضرورة استمرارها كجزء من تراث المؤسسة الملكية التي حافظت على استمرارية الدولة المغربية وساعدت على استقرارها، رغم أن البعض منهم لا يفعلون ذلك بناءً على اقتناع، بل حفاظاً على مصلحة.
وبعد بروز الأصوات المطالبة بإلغاء هذه الطقوس، تبلور هذا المطلب لأول مرة في عريضة شعبية حملت عنوان «بيان الكرامة»، حمل تواقيع شخصيات سياسية وفاعليات حقوقية وإعلامية ومن المجتمع المدني. وطالب البيان بإصدار «قرار رسمي، يضع حداً لهذه الطقوس التي تتنافى مع قيم المواطنة وتلحق أضراراً جسيمة بسمعة البلاد». إلا أن رد القصر المغربي على معارضيه، جاء من خلال وكالة الأنباء الرسمية الخاضعة لسلطة القصر، عبر مقال وقّعه المدير العام للوكالة الذي يعيّنه الملك، واعتبر فيه أن «البيعة» تمثل «انفتاحاً على الحداثة». ورد على منتقديها بالقول: «إن جواب الملكية المغربية واضح ولا لبس فيه. إن المغرب لن يتنازل عن أي شيء أمام الأصوات الداعية إلى تغيير لا يتطابق والتطلعات والمصالح الحقيقية لأمة متشبثة بمؤسساتها». وأضاف «لن يتنازل أيضاً أمام إملاءات مجموعات تشكل أقلية وتسعى إلى فرض رأيها على الأغلبية».
وقبل صدور مقال وكالة الأنباء الرسمية، خرج وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهي من وزارات السيادة التي يعيّن القصر وزراءها، ليصف بيعة الملك بـ«بيعة الرضوان»، وهي أول بيعة في عهد النبي محمد جرت تحت شجرة. وإمعاناً في التشبيه، عمد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الى تشبيه المظل الضخم الذي يحمله عبيد القصر فوق رأس الملك، بالشجرة التي استظل بها الأنصار والمهاجرون أثناء مبايعتهم للنبي محمد. وفيما التزم أغلب العلماء وأعضاء المجالس العلمية (هيئات رسمية) الصمت إزاء هذا التشبيه المبالغ فيه، خرج بعض العلماء للرد عليه، كأحمد الريسوني، الرئيس السابق لحركة «التوحيد والإصلاح»، الذراع الإيديولوجية للحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة والتي التزمت هي والحزب الصمت. وقال الريسوني «لو أن رساماً كاريكاتورياً رسم هذه اللوحة الخيالية لربما انتهى به المطاف إلى السجن». أما الباحث المغربي الأنتربولوجي، عبد الله حمودي، فوصف صاحب المقارنة بين بيعة الرسول الطوعية والبيعة التي يفرضها الخوف من السلطة بـ«الساذج والمخطئ».
وجاء أقوى رد على الوزير والسلطة التي يمثلها وتلك التي يدافع عنها، من جماعة «العدل والإحسان»، المحظورة أنشطتها رغم أنه معترف بها. ووصفت الجماعة، في افتتاحية نشرها موقعها الإلكتروني، طقوس البيعة بـ«المذلة»، قبل أن تستطرد بالقول «جوهر الأمر أن هناك نظاماً مستبداً محتكراً لأهم السلطات ومتلاعباً بالدين ومستحوذاً على جلّ الثروة مهما لبس من لبوس أو تسمى بمسميّات، وما ينبغي أن تلهي معارك الشكليات والمسميات، مهما كانت أهميتها، عن ذلكم الجوهر».



الولاء للكرامة

بفضل وسائل التواصل الحديثة، لم يعد مثل هذا النقاش حول الطقوس محصوراً داخل المغرب، بل تجاوز الحدود، ليجد له صدى في وسائل الإعلام الدولية التقليدية والحديثة.
فعندما خرج بضعة شباب، لم يكن عددهم يتعدى العشرين، لتنظيم ما سمّوه «حفل الولاء للكرامة والحرية»، رداً على «حفل الولاء للملك»، تعرض لهم رجال الشرطة وعمدوا الى تفريقهم بعنف، ومطاردتهم في شوارع الرباط، قبل أن يتحول «الحفل» الذي كان سيمرّ مروراً عابراً، إلى حدث إعلامي كبير تداولته كبريات وسائل الإعلام الدولية. وامتلأت صفحات المواقع الاجتماعية بالصور والمقاطع المصورة والنقاشات التي لا تزال تتفاعل. وفي تعليق ساخر منهم على ما حدث، وجّه منظّمو حفل «الولاء للكرامة» رسالة شكر إلى السلطات المغربية، ينوّهون فيها بالخدمة التي قدمتها لهم عندما لجأت إلى استعمال العنف لتفريقهم، بعدما «كان له الأثر البالغ في إنجاح مبادرتنا المتواضعة وإعطاء حفلنا بعداً وإشعاعاً فاق كل توقعاتنا وأدخل البهجة إلى قلوبنا».
مع ذلك، تصر السلطة على مزيد من التحدي حتى لو تطلب الأمر استعمال العنف لفرض الأمر الواقع، لكن إرادة المعارضين صلبة، حتى لو عرّضهم ذلك لمزيد من القمع. أما الحكم فسيكون في صالح من يستمر في فرض قراره أو من ينجح في انتزاع إرادته. وخلف مظاهر شد الحبل هذه، تكمن رهانات أكبر. فبالنسبة إلى القصر، يرى في إسقاط مثل هذه «الطقوس» تفريطاً في هيبة السلطة، وبالنسبة إلى معارضيه فإن ثورة الحرية التي نجحت في دول عربية مجاورة تبدأ في المغرب من «ثورة الكرامة».