يبدو انتشار التطرف في سيناء نتيجة منطقية، وربما حتمية لعدة عوامل، لعل على رأسها غياب الدولة بكافة مظاهرها، وهو ما جعل هذه المساحة من مصر خصبة لأي جماعات تنافس الدولة في سيادتها. فسيناء عادت إلى السيادة المصرية في الوقت الذي تصاعدت فيه المواجهة بين الدولة والجماعات الإسلامية المسلحة. وقد سيطر على سكان سيناء منذ عقود، قبل الاحتلال والعودة إلى مصر، مزاج صوفي تقليدي، غير أن السلفية بدأت تتسرب إليها من جهات عدة. في البداية، كان العنف موجهاً من أتباع الطرق الصوفية إلى أصحاب الأفكار الوهابية المستحدثة، وهو عنف يندرج تحت العنف التقليدي السائد في مثل هذه الأجواء.
ويوضح سعيد أعتيق، عضو ائتلاف شباب الثورة في سيناء، أنه بعد اندلاع ثورة يناير، خلت سيناء من وجود الأجهزة الأمنية بعد انهيار وزارة الداخلية وانسحابها، فبرزت القوات المسلحة للقيام بدورها، واستعانت بمجموعات متطرفة لبسط الأمن في المدن السيناوية، من بينها الشيخ زويد، وعقدت اتفاقات معها لتأمين المنشآت، وهو ما جعلها رقماً جديداً في المعادلة. ثم برزت أهمية هذه الجماعات بعد جمعة «29 يوليو» التي تظاهر فيها الإسلاميون بمفردهم في ميدان التحرير، وزاد من نفوذها استقواء التيار الإسلامي، وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين، وهيمنته السياسية.
ويؤكد أعتيق أن جماعة «الإخوان»، مع وصولها إلى السلطة، عمدت إلى جعل سيناء ساحة للتنافس والشد والجذب بينها وبين المجلس العسكري، وذلك لترسل رسالة للعالم بأنها القادرة على فرض الأمن وتحقيق الاستقرار لسيناء، ومن ثم لإسرائيل. ومن بين الأسباب الإضافية لزيادة قوة الجماعات المتطرفة السلفية، طرد حركة «حماس» أفراداً هذه الجماعات خارج غزة بعد تطهير القطاع منها، ومن بين هذه الجماعات جماعة الجلجلة وبقايا التكفير والهجرة. ويؤكد أعتيق أن هذه الجماعات هي المسؤولة عن جميع عمليات الاعتداء على الكمائن العسكرية والأمنية ومقتل الجنود المصريين. ويحذر أعتيق من سياسة التعامل مع سيناء على أنها مصدر الخطر وفزاعة أمنية للكيان الصهيوني، وهي السياسة التي اتفقت على انتهاجها أطراف محلية ودولية.
أما إسماعيل الإسكندراني، الباحث في علم الاجتماع السياسي، فيرى من خلال دراسته الميدانية لسيناء، أن المجموعات الجهادية والتكفيرية صنيعة أمنية، خرجت عن سيطرة الاستخبارات. ووصف استهداف وحدة عسكرية كاملة بأنه لا يحدث إلا في الحروب، ما يعني عدم قدرة هذه المجموعة المنفذة على القيام بهذا الأمر إلا من خلال تعاون، مع أجهزة استخبارية أكبر، سواء داخلية أو خارجية.
ويؤكد الإسكندراني أنه توقع حدوث هذا الأمر قبل وقوعه من خلال شواهد عديدة. وذكر منها تعمد سحب القوات الأمنية من المنطقة الحدودية، وعدم عودة قوات الشرطة إلى المنطقة الحدودية بالنحو المعهود، رغم وجود اتفاق بين السلطات المصرية ومشايخ القبائل بعودة الشرطة. ويرى أن ما حدث هو جزء من خطة استراتيجية أميركية، تهدف إلى تحويل جيوش المنطقة من جيوش نظامية إلى جيوش تحارب الإرهاب، وتنكفئ على ذاتها داخلياً، ومن ثم تسكن الكثير من هواجس إسرائيل وتطمئنها.
ويؤكد عدد من المراقبين أن سيناء ليس فيها أي تنظيمات تابعة لتنظيم القاعدة، لكن يوجد بعض من يحاول أن يتشبه بها أو بتقاليدها، ذلك أن التربة الفكرية هناك، ولا سيما في مناطق الشمال الحدودية مع إسرائيل وغزة، مهيّأة لنمو مثل هذه الأفكار وانتشارها.
ويُعَدّ «تنظيم الرايات السوداء» من أشهر التنظيمات الموجودة في سيناء وعلى تخومها في غزة على الحدود المصرية. هذا التنظيم جاء من الشيخ زويد، وينسب إليه استهداف تمثال أنور السادات في العريش، واستهداف «قسم ثان العريش» وقتل عدد من ضباط الجيش والشرطة أواخر تموز 2011. وينسب أيضاً إلى أعضاء التنظيم تفجير ضريح الشيخ زويد 3 مرات. كذلك تبرز جماعات «السلفية الجهادية»، «التكفير والهجرة»، «أنصار الجهاد»، «تنظيم التوحيد والجهاد»،«بيت المقدس» و«مجلس شورى المجاهدين». والجماعتان الأخيرتان تحسبان على قطاع غزة. وسبق أن أعلنتا تنفيذ عملية استهداف حافلة إسرائيلية قبل شهرين، وعمليات تفجير خط الغاز.
ويرى الأديب والناشط السيناوي، مسعد أبو الفجر، أن من بين أسباب وجود السلاح في سيناء، هو خلق الجريمة المنظمة التي كانت سياسة معتمدة لدى بعض الأجهزة الأمنية. ووفقاً لتقارير متواترة، كان السلاح يأتي عبر طرق برية من السودان ويدفن في الصحراء إلى أن يوجد له مشترٍ، سواء من القبائل التي تحتاجه بشكل رئيسي بحكم الطبيعية الجغرافية والسكانية للمكان، أو من قطاع غزة الذي تسيطر عليه «حماس» منذ عام 2007، فضلاً عن عصابات التهريب. وكان تهريب السلاح من الكثافة بحيث جعل إسرائيل تضرب قافلة متجهة من السودان إلى مصر، قيل في حينها إنها كانت موجهة إلى حركة «حماس» من إيران. وتعد قبائل الرشايدة والسواركة من أكثر القبائل هيمنة على سوق السلاح في سيناء وخاصة شمالها.
وكان مصدر السلاح الأساسي شرق السودان ومناطق النزاع فيه، حيث كانت تستغرق رحلة نقل الأسلحة 15 يوماً وتقطع مسافة 700 كيلومتر، حتى شمال سيناء ووسطها، وهي المناطق الأكثر استخداماً للسلاح. لكن بعد سقوط نظام معمر القذافي، باتت ليبيا مصدراً إضافياً للسلاح. وفي سيناء أنواع كثيرة من الأسلحة، بدءاً من الكلاشنيكوف، وحتى مضادات الطائرات والآر بي جي.
ويقسم الباحث إسماعيل الإسكندراني أنواع السلاح الموجودة في سيناء إلى عدة أقسام: الأول هو السلاح النظامي الموجود مع القوات المصرية ويختلف من كل منطقة في الثلاث مناطق «أ»، «ب» و«ج». ويضعف في «ج» ويقوى في «أ». والنوع الثاني هو تسليح خفيف ــ شخصي، مصاحب لقوات حفظ السلام المتعددة الجنسيات المنتشرة في المنطقة «ج» وعلى حدود المنطقة «ب». والثالث هو العرفي التابع للقبائل والعائلات، ولا يخضع لأي اتفاقيات. وهو خفيف ومتوسط ويشبه السلاح الموجود لدى العائلات في الصعيد، وتستدعيه طبيعة المنطقة. أما الرابع، فهو السلاح الشخصي الموجود في كل المنازل، ومنه سلاح أبيض أو قطع خفيفة للحماية. والخامس هو التجاري الذي يكون خاضعاً للعرض والطلب، سواء للقبائل أو المهربين أو غيرهم. أما السادس، فهو سلاح المقاومة الذي يتقاطع مع التجاري، لكنه يختلف في الدوافع والأهداف ولا يتعلق بالمقاومة الإسلامية، بل بكل أنواع المقاومة الحدودية أو ضد إسرائيل وحتى ضد المهربين والمجموعات العنيفة والتكفيرية. وتحدث الإسكندراني عن السلاح الأيديولوجي المتشدد والسلاح الإجرامي (غير الأيديولوجي)، وهو الموجود مع الجماعات التكفيرية وعصابات الجريمة المنظمة. ولا يمر عبر القبائل ذات النقاء الوطني على الشريط الحدودي، التي ترفض أي تسليح داخلي لغير القبائل الحدودية في هذه المنطقة. أما السلاح الإجرامي، فيشابه السلاح التقليدي مع وجود حرفية في استخدامه الهجومي وليس الدفاعي الذي يحفظ توازن القوى مثل القبائل. من جهةٍ ثانية، تحدث الإسكندراني عن محاولات اختراق المنظومة الثقافية والقيمية لقبائل سيناء عبر استقدام السلطات لمشايخ الطرق الصوفية من خان يونس في فلسطين، ونشر الطريقة الصوفية تحت قيادة شيخ يدعى أبو أحمد. وقد اجتذبت هذه الطريقة العديد من السكان، ولا سيما في منطقة القبائل الشرقية، وازدهرت زواياها لمدة عشر سنوات قبل هزيمة 1967. ويرى أبو فجر أنها السياسة نفسها التي انتهجها نظام حسني مبارك بإشاعة الأفكار الجهادية والسلفية بين أبناء سيناء بهدف تحطيم القيمة التقليدية لشبه الجزيرة وتبديلها تحت رعاية الأجهزة الأمنية.
وإذا أردنا أن نتطرق إلى أهم بؤرة مكانية في مسرح الأحداث بسيناء، فعلينا أن نتجه صوب جبل الحلال، الذي يعد مركز العمليات الأخيرة التي تقوم بها القوات المسلحة بعد أحداث معبر كرم أبو سالم. وقد كان جبل الحلال مركزاً لهجمات قوات الأمن وعملياتها في الفترة السابقة. تعيد قصة هذا الجبل الذي يقع وسط سيناء، على بعد 60 كيلومتراً من جنوب مدينة العريش إلى الأذهان، جبال المطاريد في صعيد مصر. وهي الجبال الوعرة البعيدة عن الوادي، التي كانت دائماً ملاذاً للجماعات المتطرفة والخارجين عن القانون أو ما يعرف بـ«المطاريد». ولم تستطع قوات الاحتلال الإسرائيلي السيطرة على جبل الحلال طوال وجودها في سيناء. ومن الجبل تحديداً، انطلقت عدة عمليات لرجال الصاعقة المصرية، والفدائيين من أبناء البدو. يتصف هذا الجبل بالوعورة الشديدة وتعقد المداخل والمخارج، الأمر الذي يجعله نقطة هروب وتجمع وانطلاق للجماعات المسلحة والخارجين عن القانون. وتسكن هذا الجبل، الذي يمتد عرضه إلى 40 كيلومتراً وطوله 60 كليومتراً من التلال الصخرية التي يصل ارتفاعها إلى كيلومترين، جماعات من قبائل السواركة المنتشرة شمالاً والترابين والتياها المنتشرة في الوسط. ورغم صخريته، فإنه غني بالكلأ والعشب. وتعرف الماشية في هذه المنطقة باسم «الحلال» ومن هنا جاءت تسميته، ويعمل سكانه رعاة لها.
عقب تفجيرات طابا عام 2004، قامت حملة أمنية من الشرطة بمحاولة يائسة لحصار الجبال لتعقب الجماعات المسلحة التي اتهمتها بالتورط في الأحداث. استمر الحصار لشهور ولم يفضِ إلا إلى مقتل قيادي تنظيم التوحيد والجهاد سالم الشنوب، واعتقال المئات من أبناء القبائل السيناوية المشتبه فيهم. وهو السيناريو نفسه الذي تكرر عقب تفجيرات شرم الشيخ في تموز 2005. وعقب الفراغ الأمني، الذي عانت منه سيناء بعد ثورة يناير، انطلقت من الجبل مجموعة من الجماعات المسلحة والمتطرفة، ليصبح مركز عملياتها وانتشارها في وسط سيناء وفي الشريط الحدودي الملاصق للأراضي المحتلة وإسرائيل. واتهم الأمن المصري هذه الجماعات بتنفيذ الهجوم الدموي على قسم «ثان العريش» في 29 تموز 2011، وهو الهجوم الذي أفضى إلى مقتل 5 أشخاص.
وعاد الجبل إلى الواجهة ليصبح هدف القوات المسلحة، التي قامت بقصفه عدة مرات وتمشيطه ضمن عملية «نسر 2» التي ينفذها الجيش عقب أحداث رفح وكرم أبو سالم، مستهدفاً الجماعات الإرهابية المشتبه في تورطها في مقتل جنود حرس الحدود، الأمر الذي يجعل من الجبل تورا بورا سيناوية. ويرى نشطاء أن مصير هذه الحملة لن يكون مجدياً كما كانت الحملات الأمنية السابقة حتى لو استخدم فيها الطيران، الذي لن يفرق بدقة بين أهداف إرهابية وأخرى مدنية قد تتجاور في بيئة جبلية وعرة.
لكن الجماعات الإسلامية المتشددة ليست الهدف الوحيد للسلطات المصرية في سيناء. من بين مظاهر الجريمة المنظمة في سيناء، التي أدت إلى إجهاد رجال حرس الحدود المصريين وأدت إلى انتشار السلاح، تهريب البشر إلى إسرائيل. ويعد هذا الأمر من أربح أنواع التجارة المحرمة التي تنخرط فيها عصابات من سيناء، مستغلةً غياب الرقابة الحدودية على المنطقة ورخاوة الحدود في الجانبين المصري والإسرائيلي. ويأتي المهاجرون من بلدان أفريقية تعاني الحروب والمجاعات مثل النيجر وإثيوبيا والسودان وإريتريا. ينجحون في المرور إلى مصر والتوجه إلى سيناء التي تمثّل بالنسبة إليهم معبراً إلى إسرائيل. وهناك خطوط للتهريب تبدأ من قناة السويس، حيث يعبر المتسللون نفق الشهيد أحمد حمدي حيث يكون المهربون في استقبالهم ومعهم الدليل عبر طرق موازية لمدن الشمال حتى رفح. ومن بين الطرق الأخرى التي يسلكها المهاجرون كوبري السلام، حيث لا حراسات أمنية كثيفة. وبعد تشديد القوات المسلحة قبضتها على هذه المنافذ، كان يُستجلَب المهاجرون عبر مراكب صغيرة عبر القناة.
وتتركز مراكز التهريب حول مدينة رفح وفي القرى الحدودية المجاورة لغزة وإسرائيل، حيث توجد معسكرات إيواء الأفارقة مثل «الماسورة» و«المهدية». ويحدث التهريب يومياً، وتبلغ تسعيرة تهريب الفرد الواحد 25 ألف دولار، ويكون عبر أنفاق أو معابر. غير أن هؤلاء الأفارقة الهاربين من جحيم الجوع والحروب في بلادهم يقعون في أحيان كثيرة ضحايا لتجارة الأعضاء البشرية التي تجد لها رواجاً داخل إسرائيل، وهناك تسعيرات محددة للأعضاء، حيث يبلغ سعر القلب 100 ألف جنيه والرئة 40 ألفاً والعينين 20 ألف جنيه. ويدفن الأهالي جثث هؤلاء الضحايا في مقابر جماعية تعرف بمقابر الأفارقة، كذلك فإن بعضهم يتعرض للاختطاف والتعذيب. وتشير بعض التقارير إلى غض طرف بعض المسؤولين الأمنيين عن هذه التجارة المحرمة دولياً، لاستفادتهم منها، حيث إن المهربين والأدلاء معروفون لدى الأمن ولدى قبائلهم. وتستهجن القبائل هذه التجارة المحرمة، وتنظر نظرة عار إلى من يخرط في هذا الأمر من أبناء القبائل السيناوية. ويشار إلى أن تهريب البشر قد غلب عليه الأفارقة في الآونة الأخيرة، في حين أن تجارة الرقيق الأبيض من الأوكرانيات والروسيات والجورجيات كانت غالبة في العقود الماضية، وبالطبع لا يخفى التنسيق الإجرامي بين العصابات في سيناء مع نظيراتها الإسرائيلية.



تنافس القضاءين

يعد التنافس بين القضاءين العرفي والشرعي أحد ساحات التنافس بين مجتمع القبيلة التقليدي والتيارات الدينية الوافدة على سيناء الساعية إلى فرض ثقافتها وما تراه من «شريعة على المجتمع».
وقد ساهم القضاء العرفي في إضفاء كثير من التماسك على المجتمع السيناوي، وقد كان منسجماً مع تركيبته القبلية والقيمية القائمة المتمركزة حول احترام الكبار والالتزام والتخوف من العار بنقض العهود. وهو يستند في خطوطه العامة إلى الأحكام الشرعية، مضافة إليها الخبرة الشخصية للقضاة المتخصصين في هذه المهنة، الذين يتلقون «رزقهم» مقابل ما يصدرونه من أحكام يستندون فيها أيضاً إلى المتخصصين الاستشاريين في مجالات النزاع.
غير أن هذا القضاء أخذ في الآونة الأخيرة يتعرض للضربات نتيجة عدم كفاءة القضاء ودخول عناصر غريبة عليه، وهو ما أدى إلى تآكل الأصول التي استقر عليها، ثم كانت الضربة الكبرى مع سيادة نمط القضاء الشرعي في سيناء.