صنعاء | بعد ثمانية أشهر على بدء الحرب، أصبح من الواضح أن العدوان السعودي على اليمن لم ينجح تماماً في ثني أهل صنعاء عن الاستمرار في عيش حياتهم بصورة تتناقض مع حالة العدوان التي يمضون أيّامهم تحت وطأتها. ولم يتغيّر الأمر حتى مع بلوغ العدوان، في الأسابيع الأخيرة، مرحلة واضحة من «الضياع»، حيث صارت طائرات آل سعود تستهدف كل شيء، فصارت صنعاء بكامل مكوناتها من بشر وحجر ومبانٍ خدمية وسكنية أهدافاً قابلة للقصف، كذلك سُجّلت بصورة تصاعدية أرقام غير مسبوقة في عدد الشهداء المدنيين خلال هذه الفترة.
على الرغم من هذا الواقع، ظلّت بعض القطاعات في صنعاء تنبض بالحياة. المقاهي المحلّية على مختلف مستويات تصنيفها، لم تغلق أبوابها أمام مريديها، ولم تتوقف عن استقبال الناس أمام تصاعد شهوة القتل السعودية.
ومن الضروري عند الحديث عن المقاهي في صنعاء، الإشارة إلى اختلافها عن النمط السائد للمقاهي في مختلف البلاد العربية، حيث يُعتبر المقهى، في السياق الاجتماعي، مكان للقاءات ونقاشات. يتمايز المقهى الصنعاني عن تلك المقاهي بمستواه الشعبي، حيث يزوره كبار السن أو متوسطو العمر بغرض تناول فنجان قهوة بسرعة والذهاب بعد ذلك لقضاء أمور الحياة الأخرى، فيما يفضل اليمنيون النقاش وتداول الأحاديث في «مجالس القات» التي تعتبر حلقات نقاش يومية وفضاءات لحل قضايا أسرية ومالية.

يبقى توفير التيّار
الكهربائي الإشكالية الأبرز في تقديمات المقاهي

لكن الأمر تبدّل في السنوات العشر الأخيرة، حين ظهرت نوعية جديدة من المقاهي المتاحة للجنسين. تفتح هذه المقاهي أبوابها منذ ساعات الصباح الأولى وحتى العاشرة مساء على نحو تقريبي، وتتسم بأسعار مرتفعة نسبياً لكنّها تتيح لروادها خدمة الإنترنت والكهرباء على مدار الساعة. وعلى اعتبار أن خدمات الإنترنت صارت متاحة بصورة أفضل من السابق، يبقى توفير التيّار الكهربائي هو الإشكالية الأبرز في تقديمات المقهى، بعدما غاب التيّار نهائياً عن منازل العاصمة صنعاء التي كانت تحصل على حاجتها من الكهرباء من المحطة الغازيّة في محافظة مأرب، أحد أهم مركز مواجهات بين قوّات التحالف السعودي والجيش اليمني حالياً.
أمّا عن المجازفة التي يمثلها ارتياد المقاهي في الوقت الراهن، فيقول أحمد توفيق (20 عاماً) إن مواعيد قصف الطيران ليست ثابتة، «فهو يقصف في أيّ وقت وفي أيّ مكان بالتالي يبقى عبثياً البقاء في البيت وعدم متابعة أمور حياتنا». لكنه يعبّر عن سعادته في تثبيت مواعيد ذهابه إلى المقهى الذي يزوره من العاشرة صباحاً لغاية السابعة مساءً، «وكأني أذهب إلى موعد عملي المعتاد الذي طال أصحابه عدم حضور الموظفين لمكاتبهم حمايةً لهم، حيث يقع جوار جبل عطان الذي صار هدفاً دائماً لضربات العدوان».
في السياق نفسه، يبدو المقهى الذي يملكه مصريون أُجبروا على مغادرة البلد، الأكثر عرضةً لآثار القصف السعودي بسبب وقوعه في مكان قريب للغاية من مكتب ابن الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وهو المقر الذي استُهدف ثلاث مرات إلى أن صار ركاماً. يقول أحد العاملين في المقهى إنهم أعادوا ترميمه أكثر من مرة بعدما أدت الضربات إلى جعله غير مؤهل لاستقبال مرتاديه. ويشير فيصل الذي تعرض لإصابات بالغة جراء آخر عملية قصف تعرض لها المكان، إلى أنهم أصرّوا على إبقاء المقهى مفتوحاً رغم كلفة تشغيله الباهظة التي لم تعد مربحة، «لكن سعينا لأن يبقى المكان مفتوحاً احتراماً لعدد كبير من روادنا الذين صاروا أصدقاء للمكان ولا يغيبون عنه يوماً، إضافة إلى أن إبقاءه مفتوحاً هو رسالة مقاومة أمام العدوان السعودي على حياتنا».
وبالإضافة إلى عمل المقهى وخدماته المعتادة، صار يعرض تسهيلات لجماعات ناشطة في قضايا العمل المدني والخيري من طريق حجز مسبق، ولمجموعات فنيّة تقيم فيها دورات خاصة لهواة التصوير وكيفية تطورهم بهدف توثيق عمليات القصف وآثارها. كذلك، تُستخدَم قاعات المقهى لإجراء مقابلات واختبارات المتقدمين، ومنها دورة أقامها فريق عمل الفيلم اليمني «ليس للكرامة جدران» الذي أنجزته اليمنيّة سارة إسحاق مع أمين الغابري وابراهيم حسين وهو الفيلم اليمني الذي نجح في الوصول إلى المرحلة النهائية من مسابقة أوسكار أفضل فيلم وثائقي عام 2014.
لكن تبقى مكتبة المقهى التي كانت تقدم خدمات جيدة لقارئيها وتوفر آخر إصدارات دور النشر العربية، الضحية الأبرز للعدوان حيث تأثرت تلك المكتبة بصورة كلية بالقصف بحكم طبيعة تكوينها من الزجاج وصعوبة إعادة تأهيله حالياً، وخشية تكرار الإصابات لدى العاملين فيه، ومنهم من لم يعد قادراً على ممارسة عمله مرة أخرى إثر تساقط الزجاج عليه.