جاءت تفجيرات رفح الأخيرة، لتفجر آلام سيناء كلها، وتجبر الجميع على التحول صوبها، وهي شبه الجزيرة التي لا يلتفت إليها أو إلى أهلها أحد إلا على وقع الحروب والانفجارات. عادةً لا يُسمع عن سيناء البدو وأشجار الزيتون والرمال إلا عند ذكر حرب أكتوبر أو انفجارات طابا وشرم الشيخ، والجدار العازل برفح وتفجير خط الغاز لإسرائيل.
أما بقية الوقت، فلا تذكر إلا مدينة شرم الشيخ، مقر إقامة الرئيس المخلوع حسني مبارك في سنواته الأخيرة وقبلة السيّاح، وهو ما جعل سيناء مهمشة رغم موقعها الاستراتيجي، بوصفها معبراً بين أفريقيا وآسيا، ومساحتها التي تمثل قرابة ثلث مساحة مصر. كذلك فإن المنطقة ملتقى للثقافات والأديان لما فيها من أماكن ذات أهمية دينية كطور سيناء ودير سانت كاترين.
ودائماً ما توصف سيناء باعتبارها بوابة مصر الشرقية ومعبرها إلى المشرق العربي، وكذلك بأنها جسر الغزاة إلى الوادي حيث قلب مصر، وهي كذلك معبر الثقافات القديمة. من خلالها انتقلت الأبجدية المصرية إلى الشرق الأدنى، وعن طريقها اكتسبت مصر شخصيتها الثقافية العربية الإسلامية الحديثة مع الفتح العربي الذي كانت سيناء معبره. وتتحدث المصادر القديمة عن القبائل السامية التي استوطنت سيناء والوادي بعد هجرتها الممتدة والمتعاقبة من أرض الجزيرة العربية. وارتبطت سيناء منذ القدم بالمشرق حتى اكتسبت اسمها من اسم الإله سين، إله القمر في بابل القديمة، الذي انتشرت عبادته في الشرق الأدنى وعلى حدود مصر الشرقية. وتشتهر سيناء إعلامياً بكونها «أرض الفيروز». وقد جاء في المصادر المصرية القديمة ذكر مناجم ومدرجات الفيروز، تلك الثروة المعدنية القيمة التي تزخر بها شبه الجزيرة، إلى جانب ثروات أخرى عمل فراعنة العصر القديم والحديث على استغلالها، مع إبقاء سكانها على الهامش، بما يؤكد أن تقاليد الدولة في مصر لا تتغير على مدار السنوات ولو عُدّت بالآلاف.
وتدل الجغرافية البشرية لسيناء، وفقاً للعديد من الباحثين، على أنها معبر ديموغرافي ونقطة صلة بين ساكني وادي النيل والمشرق العربي، ولا سيما في الشام والحجاز والأردن. وقد كان سكانها القدامى خليطاً بشريّاً من ذوي الأصول السامية والحامية، حتى غلب عليها العرب مع الفتح الإسلامي، بل وقبله. ويقول نعوم بك شقير، في موسوعته عن تاريخ «سيناء القديم والحديث وجغرافيتها» الصادرة عام 1916، «في تقاليد بدو سيناء أنه قد هاجر من العرب المسلمين 75 قبيلة من نجد والحجاز في سنة واحدة، فسكنوا مصر وسيناء وجنوب فلسطين». والقبائل السيناوية الحالية تعتز بأصولها وصلاتها العربية المترامية والبعيدة، وقد أسهمت الحروب والغارات بين القبائل المترامية بين الشام ووادي النيل في إيجاد تجانس عرقي في هذه المنطقة وفي القلب منها سيناء. وإن تباينت المنطقة ثقافياً بين ساكني الحضر والبادية والسهول الزراعية شرقي وادي النيل.
وعندما كانت مصر الفرعونية، زعيمة الشرق الأدنى في عهود قوتها، كان هناك طريق حورس الحربي يخترق سيناء إلى شرق الوادي، وهو الطريق الذي كان معبر الفراعنة الغزاة لإخضاع الشعوب المتمردة في سوريا. ومع تدهور مصر كانت سيناء معبر الغزاة المتعاقبين، بدايةً من الملوك الرعاة الهكسوس حتى الاحتلال الإسرائيلي. وكونها تمثل هذا المعبر الحربي أضفى عليها أهمية استراتيجية، تزايدت كلما زادت الأخطار على الحدود. ومن هنا كانت نشأة إسرائيل على الجانب الشرقي من سيناء علامة فارقة في زيادة أهميتها الاستراتيجية، ومثلما كان هذا نقمة على جيران الكيان الصهيوني العرب، كان نقمة على سيناء وسكانها. فتناسبت الأهمية الاستراتيجية عكسيّاً مع رفاهية أهلها وتقدمهم، وصارت الخطورة تحف نظرة الدولة المصرية إلى سيناء وأهلها، فهي مصدر للخطر أو على الأقل معبر له، وهي نفس النظرة التي نظرت بها إسرائيل إلى سيناء.
ومن هنا كانت قضية سيناء هي آخر ملفات حرب السويس (1956) التي ماطلت إسرائيل في إنهائها بالانسحاب من شبه الجزيرة التي اجتاحتها كلياً في بداية الحرب، حتى تحصل على ضمانات تعزز أمنها وتمنع عدوان النظام الناصري المعادي عليها. ومع اجتياحها للمرة الثانية في 1967، تعاملت إسرائيل مع سيناء باعتبارها نطاقاً أمنياً واستراتيجياً ممتداً، يفصل بينها وبين مصدر الخطر المصري. ولم تستعمرها كما سارعت إلى استعمار الضفة والجولان بالمستوطنات، فقط بنت مستوطنة أقرب إلى المنتجع في جنوبها، وزادت في حصانة الغيتو الصحراوي بخط بارليف الدفاعي. وهو الوضع الاستراتيجي الذي عملت إسرائيل على الحفاظ عليه بعد حرب 1973، أثناء المفاوضات التي قادتها مع نظام أنور السادات، وأفضت إلى كامب ديفيد واتفاقية السلام عامي 1978 و1979، وفيهما قسمت سيناء إلى ثلاث مناطق تبعد الخطر المصري عنها إلى ما وراء قناة السويس.
ورغم أن هذه الحرب والمفاوضات والمعاهدات لم تحرر سيناء كلياً، غير أن عودتها إلى السيادة المصرية زادت من قيمتها الإعلامية، فيما ظلت في نظر الدولة مصدراً للخطر. ولم ينل أهلها أي اهتمام يتناسب مع ضجة التحرير، بل مورست ضدهم سياسات هي أقرب إلى سياسات المحتل. وظلت سيناء على الهامش، ولم تعدها إلى الأذهان إلا أخبار التفجيرات والهجمات الإرهابية، وآخرها الهجوم على معبر كرم أبو سالم جنوبي رفح. تركت الدولة المصرية سيناء لتكون نهباً للجماعات المسلحة وصراعات الاستخبارات والجريمة المنظمة، واستمر أهلها وسكانها غارقين في اضطهاد الدولة ومحلاً للخطر.
وتنقسم سيناء إدارياً إلى محافظتين. ويبلغ عدد سكانهما وفقاً لآخر إحصاء سكاني لتعداد عام 2006 نشره موقع الهيئة العامة للاستعلامات، 489 ألف نسمة، منهم نحو 339 ألف نسمة في محافظة شمال سيناء، و149 ألف نسمة في محافظة جنوب سيناء. أما قبلياً، فتنقسم سيناء إلى ثلاث مناطق، تتوزع فيها ما بين 11 و13 قبيلة وعشيرة يراوح تعداد كل منها بين (500 نسمة و12 ألف نسمة). فهناك سكان بلاد الطور، وهي جنوب سيناء وتعرف بالطوارة. وهي قبائل: العليقات، ومزينة والعوارمة، وأولاد سعيد والقرارشة أو الصوالحة، ومن بين هذه القبائل توجد عشائر وعوائل ممتدة في بقية سيناء.
وفي وسط سيناء ما يعرف ببلاد التيه، تسكنها قبائل التياها والأحيوات والترابين. والأخيرة تمتد إلى جنوب فلسطين وغزة. أما شمال سيناء أو بلاد العريش، فتقطنه قبائل السواركة، وهي أكبر القبائل السيناوية عدداً، حيث تتفرع منها 13 عشيرة أو عائلة تتمركز حول مدينة العريش، وتمتد شرقاً حتى الشيخ زويد وغرباً نحو منطقة المطار. كذلك تتواجد قبيلة العقايلة، وهي قبيلة صغيرة تعيش على ساحل البحر المتوسط، وهناك قبيلة البياضية وتقطن المنطقة الواقعة بين القنطرة شرق وبورسعيد، وكذلك الأخارسة، وهي قبيلة كبيرة تقطن منطقة الرمانة ولها امتداداتها في الشرقية والإسماعيلية.
وتتحدث المصادر عن وجود جماعات من أصول غير عربية قطنت سيناء قبل الفتح العربي وبعده، غير أنها سرعان ما ذابت أو انقرضت أو انعزلت، كتجمع «الجبالية»، وهي مجموعة سكانية من أصول غير عربية، تقطن جبل سيناء، ويعود أصلها إلى مجموعة المحاربين المقدونيين الذين استجلبهم الرومان لحماية مقدسات الجبل.
ويبدو التوزيع القبلي لسيناء أعقد بكثير من المصطلح الذي يشار به في الإعلام إلى سكان سيناء وهو «البدو» أو «السيناوية». ويوضح الناشط السيناوي، مسعد أبو فجر، أن سيناء تعبر عن مجتمع متنوع ومعقد، وإن كانت القبائل تغلب على تركيبته. ويوضح أن النظام المصري عمد في إطار سياسته الأمنية التهميشية مع سيناء إلى الحفاظ على هذه القبلية بل وتعميقها. وفي الوقت الذي استبعد فيه العصبيات الكبرى من القبائل، مثل السواركة والتياها والترابين، من المشاركة السياسية أو في إدارة شأن سيناء، عمد إلى محاباة القبائل الصغيرة العدد. وخلق عملاء للأجهزة الأمنية بين مختلف القبائل، ولم يوجد من أبناء العصبيات الكبرى في سيناء من أسند إليه مناصب في المجالس المحلية أو مجالس المحافظات أو حتى في الحزب الوطني المنحل.
أما الناشط إسماعيل الإسكندراني، وصاحب مدونة «أحب سيناء»، فيرى أن التكوين القبلي في سيناء ينظر إليه بأهمية وينطوي على تفاوت من حيث التكوين العددي والامتداد التاريخي، لكن يجمعه التنسيق في القضايا الوطنية وقضايا التنمية الكبرى. ولفت إلى أن الانتماء القبلي صارم في أمرين، الأول هو الحقوق، والثاني هو التنمية على المستوى المحلي من حيث حيازة الأراضي وغيرها.
ويشير الإسكندراني إلى أن قبائل الوسط تعتمد اعتماداً رئيسياً على التهريب بالمفهوم الاقتصادي لا بمفهوم الاختراق الأمني. وقبائل الجنوب تعتمد على أعمال السياحة، بينما تعتمد قبائل الشمال على الزراعة والصيد. وتمر معظم عمليات التهريب، التي تجري في وسط سيناء، على قبيلة التياها (نسبةً إلى صحراء التيه)، منوهاً بأن البضائع المهربة تأتي من الجنوب عبر البحر الأحمر، وفي الشمال من معدّيات قناة السويس. كذلك يشير إلى أن قبيلة العزازمة يطلق عليهم قبائل بدون، أي غير حاملي الجنسية وهم موجودون قرب الخط الحدودي، وعددهم قرابة 2000 فرد.
ميدانياً، يوضح الإسكندراني، أن محافظة جنوب سيناء تعد أقل عدداً في السكان وأهلها أقل تعلماً. وليس من السهل اختراق عاداتهم وتقاليدهم، من خلال الأفكار الوافدة إليهم، حتى إنهم يحافظون على طريقة ربط العقال فوق الرأس بالطريقة القديمة حتى الآن. ويعد الجنوب أقل في مشكلاته من الشمال من حيث الجوانب الأمنية، نظراً إلى تجاور الشمال مع حدود فلسطين بغزة ورفح ومع إسرائيل، وهي أمور جعلت السياسة بمفهومها التقليدي تتواجد في الشمال بصورة أكثر.
ويؤكد سعيد عتيق، عضو ائتلاف شباب الثورة في سيناء، أنه على الرغم من وجود ممارسة سياسية أكثر في الشمال، إلا أنه لا توجد سيطرة أو يتوافر نفوذ قوي لأي حزب أو غيره من القوى السياسية التقليدية، لافتاً إلى أن شباب السيناوية، الذين التحموا بثورة «25 يناير»، يعدون الأكثر بزوغاً حالياً. وشدد على أنهم أقدموا على إصلاح الأوضاع داخل قبائلهم وعشائرهم وفي مواجهة الدولة لاقتناعهم بضرورة دمج سيناء في إطارها المصري، ورفضهم الإقصاء والتهميش وإصرارهم على الحصول على حقوقهم السياسية والاجتماعية على نحو كامل. وقد مثلت هذه القوة إحراجاً للقوى التقليدية المتمثلة في مشايخ القبائل والعشائر وعددهم قد يصل إلى 50 شيخاً، وهم مرتبطون بأجهزة الأمن، وليس لديهم أي رؤية أو قدرة على الفعل. وقد قدم شباب السيناوية مقترحاً بتغيير نظام تعيين المشايخ في القبائل والعشائر على أن يكون بالانتخاب الحر والديموقراطي، وبإشراف المجلس القومي لحقوق الإنسان، غير أن القوات المسلحة ومؤسسة الرئاسة، حتى في عهد الرئيس محمد مرسي، رفضت هذا المقترح. ويؤكد عتيق أن مثل هذا المقترح كان بإمكانه أن يضخ دماً جديداً في المجتمع السيناوي، وكان سيضمن تحقيق شيء من الاستقرار والأمن المفقود في سيناء.
ويبقى المكسب السياسي الأبرز الذي جرى تحقيقه هو ضغط قوى الشباب السيناوية الثورية واتجاهها نحو توحيد مطالبها في مواجهة المشايخ وجماعة الإخوان والعسكر.



أفقر المحافظات المصرية

تكشف دراسة لمجموعة الأزمات الدولية، صدرت منذ عدة سنوات وحملت عنوان «قضية سيناء»، أن سكان سيناء ينقسمون إلى مجموعات منهم البدو والمنتمون إلى جذور تنتمي إلى شبه الجزيرة العربية. ويتوزعون على قبائل، وفلسطينيون سكنوا العريش، وكانوا يعاملون كمصريين حتى أواخر السبعينيات، ثم صنفوا كأجانب بعد ذلك، كما يضمون وافدين من دلتا مصر انتقلوا إليها بعد جلاء الاحتلال الإسرائيلي عنها، وبعض من وفد إليها من خارج المحيط العربي وقت الخلافة العثمانية وأغلبهم بوسنيون.
ومن بين ما كشفته الدراسة أيضاً عن السكان، أن معدل النمو السكاني، وصل بعد عام 1996 إلى 62 في المئة‏ في شمال سيناء و‏22 في المئة‏ في جنوبها‏.‏
وصنفت الدراسة محافظة شمال سيناء، باعتبارها من أفقر محافظات مصر. وخلصت الدراسة إلى أن التركيز على الجانب الأمني تسبب في انخفاض مشروعات التنمية الاقتصادية، ما عدا المشروعات السياحية التي تتركز في جنوب سيناء، ويحرم منها أبناء سيناء، الذين تنالهم القيود الأمنية.