دمشق | تختصر أسواق دمشق القديمة تفاصيل وحكايات كثيرة من تاريخ أقدم مدينة في التاريخ، لطالما اشتهر معظم سكانها بالعمل في التجارة. يترقب تجار مدينة الياسمين سنوياً شهر رمضان، الذي يعدّونه موسماً حقيقياً لبضائعهم المختلفة، كما هو الحال مع سوق الحميدية الأثري الشهير، الذي بناه السلطان عبد الحميد الأول عام 1780، والسوق الطويل الموازي لسوق الحميدية، الذي بناه مدحت باشا عام 1878، كما يحلو للكثير من السوريين تسمية أكثر أسواقهم شهرة باسمه اليوم. في رمضان هذا العام، غابت على نحو شبه كامل جميع مظاهر الزينة أو الاحتفال عن هذه الأسواق الدمشقية.
أبو محمد «55 عاماً»، صاحب أكبر متاجر بيع التحف والشرقيات في سوق الحميدية يقول بحسرة «مع قدوم أول أيام شهر رمضان، نعمل على تزيين محالنا لجذب الزبائن، لكن مظاهر الفرح والاحتفال، قتلتها مشاهد الموت والدم اليومية، مع دعوات للإضراب وتهديد من أجل إغلاق المحال والأسواق، ووصول المواجهات المسلحة إلى وسط العاصمة دمشق، التي تزامنت أيضاً مع بداية شهر التسامح والمحبة». ويشكو من تراجع نسبة مبيعاته إلى ما دون الربع بسبب غياب السياح الأجانب. ويضيف «تعتمد تجارتي اعتماداً أساسياً على السياح الأجانب. آخر عملية بيع لسائح اشترى قطعة من متجري كانت قبل عام وأربعة أشهر تماماً، ومنذ ذلك الوقت لم أعد أشاهد سائحاً واحداً في سوق الحميدية، ولكم أن تتخيلوا الأوضاع التي وصلنا إليها». حركة البيع والإقبال على الشراء لم تختلف كثيراً في سوق مدحت باشا. أبو نزار، صاحب متجر كبير لبيع الطحين والمواد الأولية لصناعة الحلويات، لم يغامر في ملء مخازنه بالبضاعة استعداداً لشهر رمضان. أما السبب، فيختصره بالقول «تعاملاتي التجارية الأساسية، تعتمد على أصحاب المتاجر الصغيرة، المنتشرة في ضواحي العاصمة دمشق».
في ساحة المرجة الشهيرة، تتوزع محال بيع الحلويات التي يزداد الطلب على شرائها في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، استعداداً لأيام عيد الفطر، لكن حالة الكساد في البضاعة، كانت واضحة على واجهات معظم المحال.
يقول أبو محمد «60 عاماً»، الذي يعمل في مجال الحلويات منذ أكثر من 45 عاماً، «لم أشهد خلال حياتي حالة ركود وكساد وندرة في البيع مثل هذا الموسم». ويضيف أبو محمد، الذي خفض من أسعار حلوياته على الرغم من ارتفاع معظم أسعار موادها الأولية بنسب متفاوتة، «فضلت البيع بربح قليل جداً، قريب من سعر التكلفة، على أن تكسد البضاعة، ومع ذلك لا أعتقد أن هناك من يشتريها. لا وجود لمظاهر العيد هذا العام».
في ساحة المحافظة التي يتوسطها تمثال ليوسف العظمة حاملاً سيفه، تتوزع العديد من مكاتب صرافة العملات الصعبة وتحويل الأموال، التي شهدت بدورها حالة ازدحام غير مسبوقة، بررتها إحدى الموظفات «بسبب الانقطاع المتكرر الذي يصيب شبكة الانترنت، مما يؤخر العمليات المكتبية، وإنجاز معاملات الزبائن»، لكن حقيقة الأمر أخبرنا بها أحد أصحاب الحوالات، الذي انتظر دوره أكثر من 3 ساعات قائلاً «لا وجود لتحويل أي مبلغ مالي داخل سوريا. لا أحد من جميع هذه المكاتب يضمن سلامة وصولها. معظم من تحدثت معهم في مكتب الحوالات اليوم، ينتظرون استلام مبالغ من أقاربهم لمساعدتهم على مغادرة الأراضي السورية، هرباً من الأحداث الدموية التي يعيشونها».
في سوق الصالحية وشارع الحمرا الشهيرين ببيع الملابس الجاهزة، ترتفع أصوات المولدات الكهربائية على نحو يصم الآذان. حركة المتسوقين مقبولة نسبياً إذا ما قورنت بالأيام الأولى من شهر رمضان، يقول توفيق صاحب متجر للأحذية وسط سوق الصالحية، لكنه يؤكد أن «حركة البيع لا يمكن مقارنتها بالمواسم الماضية». ولفت إلى أن «من يستطيع شراء ثياب جديدة في هذه الظروف، فضل شراءها من أماكن قريبة لبيته». نظرة سريعة على أسعار مجمل البضائع المعروضة في واجهات المتاجر، تؤكد أن أصحابها يفضلون تحطيم أسعارها المرتفعة لأصحاب الدخل المحدود إلى ما دون النصف، لتشجيع الزبائن على الشراء «الخسارة الحقيقة بحساباتنا نحن التجار، هي بقاء كميات كبيرة من بضائع موسم الصيفي، وحفظها في المستودعات للعام المقبل». على الرغم من أخبار القصف والرصاص والموت التي تصل على مدار الساعة من ضواحي العاصمة، يمكن أن تشاهد اليوم رجلاً يصطحب زوجته وأطفاله الصغار، في جولة تسوق. أحدهم لم يتردد في القول «قدمت مع عائلتي من منطقة دمر. لم ولن أكترث بالخوف الذي يسيطر على دمشق اليوم. أحاول رسم ابتسامة فرح على وجوه أطفالي بشراء ملابس وألعاب جديدة لهم. ربما سعادتهم اليوم تنسيني مع والدتهم الرعب والخوف الذي نعيشه يومياً».
يرفض السوريون اليوم فكرة الاستسلام للخوف من المواجهات المسلحة، أو ربما اعتادوها بعدما تحولت إلى جزء من تفاصيل حياتهم اليومية. قبل أيام وعلى بعد أمتار قليلة من سور مبنى البرلمان السوري، تبادلت مجموعة مسلحة إطلاق النار في وضح النهار، مع عناصر الأمن وحفظ النظام المكلفة بحراسة مبنى البرلمان. لم يكترث المتسوقون في شارع الحمراء القريب جداً من مكان الحدث للرصاص الطائش، ولا للمطاردات والملاحقات في أزقة السوق. «وقف الجميع في الشارع وخرج بعضهم من المحالّ التجارية، يراقبون الأحداث، وكأنهم يتابعون مشاهد من فيلم أكشن ليس أكثر. دقائق قليلة مرت بسرعة وعادت الحركة في السوق كما كانت عليها، وكأن شيئاً لم يحدث»، تخبرنا هلا التي كانت برفقة أختها تتسوق، وراقبت عن كثب تفاصيل الحدث. وتضيف «لا أحد من السوريين اليوم يتقبل فكرة العنف أو القتل بين أطراف الصراع الدائر. أحاول دائماً عدم تصديق ما يجري على أرض بلادي. سأبقى متمسكة بالأمل على الرغم من مشاهد القتل والذبح والدمار التي أتابعها يومياً على الفضائيات». على بعد مئات الأمتار فقط من سوق الصالحية وشارع الحمراء الذي يغص بالمتسوقين، يحتشد الآلاف أمام مركز الهجرة والجوازات في منطقة البرامكة، للحصول على أوراق رسمية مطلوبة للسفر بعيداً عن الأراضي السورية. بين أسواق دمشق العريقة، ومراكز الهجرة والجوازات، يسجل العابر في شوارع دمشق، مفارقات غرائبية موجعة بالجملة، تلخص إلى حدّ ما السريالية التي تسبح بها سوريا كلها اليوم.