مقام اللجوء
أنتظر هاتفك: (أنا بخير) أو أنتظر القناص في أول المخيم ليأخذ جرعة ماء ما بين طلقتين لأعبر نحوك، وأسابق قذيفة الهاون الطائشة إليك، أدخل معها في منافسة على قلبك... ترى من منا، أنا أم القذيفة، يدخله قبل الآخر؟
لا أخبار موثوقة من أي أحد تطمئنني عليك. نشرات الأخبار تسقطك من حساباتها السياسية، ويضيق بك الشريط العاجل... ولا شيء يهدّئ بال العاشق سوى عينيه ويديه. قليل ويهدأ القصف، لأخرج أبحث عنك في محاولة تسمينها الجنون.

أعبر شوارع المخيم الخالية التي أذكر أنها لم تكن خالية يوماً. هي ليست خالية تماماً. ثمة مجانين عاشقون مثلي يبحثون عن حبيبة مثلك، أو عن ابن لهم، أو عن أب أو أم. ثمة من يبحث في شوارع المخيم عن الهواء فقط هرباً من جدران الانتظار الأربعة في بيته.
في الشوارع وسط العاشقين المجانين، كنت أود أن أسأل القذيفة عنك، وبمعنى أدق أحذرها من الاقتراب منك، لكن القذائف المركزة أو الطائشة، لا فرق، لا تسأل عن هدفها إلا ما بعد القصف، فهي الأخرى مثلنا لا تعرف إلى أين تمضي في جنون هذه الحرب.
وما بين موت وموت، كان بوسعي الاستماع إلى حوار بين قذيفتين. تقول الأولى: أنا ماضية حيث لا أدري شمال جنوب المخيم، لكنني قد أتعب وأحطّ جنوب المخيم. وتقول الثانية: وأنا ذاهبة إلى غرب شرق المخيم، لكني قد أتعب فأحطّ في شرقه.
تتعب القذيفتان، فتلجآن إلى المخيم، بقصد أو من دون قصد، بقصف مركز أو قصف طائش، تستقران في بيت فيه أو أكثر، وقد تعانقان أبناءه، فتخلفان في أثرهما شهيداً أو أكثر. قبل أن تمضيا مع المشيعين خلف الشهيد إلى مقبرة المخيم، فاللاجئ للاجئ كالبنيان المرصوص. والقذيفة ـــ القاتل، كما ابن المخيم ـــ القتيل، كلاهما لاجئان مع فارق في التوقيت.
مقام الموت:
هنا مخيم اليرموك. هنا، أنا وأنت ولدنا لاجئين بلا معنى. لا خيمة لنا ولا كرت إعاشة ولا طوابير انتظار ترسم ملامحنا، ولا معارك تحرير وعمل فدائي وصور شهداء تملأ جدران المخيم تؤكد أننا نقاتل حتى نقتل، وإنا إلى فلسطين عائدون.
لا شيء يمنحنا معنى اللجوء ها هنا، سوى صورة بطاقة الهوية التي نحملها، يعلو وجهها الأول إشارة إلى أنها بطاقة إقامة مؤقتة للفلسطينيين، بينما يشهد وجهها الثاني على أن لنا وطناً أصلياً هناك، تحفظ بطاقة الهوية اسمه، هكذا عشنا هواجس العودة على الهوية، ونسينا في خضم الحياة اليومية أننا لاجئون.
ثم كان عام الأزمة السورية، عام ونصف أو أقل من ذلك بقليل مر، تقاتل خلالها الأخوة بين مؤيد ومعارض، وظل المخيم على حافة الوجع السوري، يطل على الألم اليومي من بعيد، ولا يقربه، على أن ذلك من أصول الضيافة، إلى أن دهمه الوجع يوماً.
يسقط منا أول شهيد، ثم يفقد المخيم شهيداً ثانياً فثالثاً. تطول قائمة شهداء المخيم، القتلى بالمصادفة، قتلى الرصاص الأعمى والقصف الطائش. تطول القائمة، يصير المخيم في وسط النار والوجع، ولا يكتفي بالإطلالة عليه، يتألم المخيم، لكن عليه ألا يصرخ، ففي الصراخ موقف، وفي الموقف شبهة اصطفاف مع جبهة دون أخرى.
ينأى المخيم بنفسه عن الموت اليومي، لكن الموت لا ينأى بنفسه عن المخيم وأبنائه. تطول قائمة الشهداء فيه، شهداء لم يسقطوا على طريق العودة، ودماؤهم لم تمتد جسراً نحو فلسطين. شهداء المخيم سقطوا اليوم لاجئين، بلا معنى، كما عاشوا بلا معنى، لاجئين. وكالعادة كان علينا ألا نصرخ، ففي الصراخ موقف، وفي الموقف اصطفاف.
مقام المقام:
هنا مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين. والعام هو عام الأزمة السورية. تضيق مساحة العيش خلف المخيم، يتحول محيطه إلى كتلة من النار بعد أن تشتعل المواجهات المسلحة في المناطق حوله، هكذا يقع المخيم النائي بنفسه عن الأزمة، مجدداً بين فكي النار والموت والنزوح، يصير المخيم ملجأً إليه تشد رحال الهاربين من الموت، ونصير لأول مرة لاجئين نغيث لاجئين. «لكنّ لاجئاً عن لاجئ يفرق»، قلت لي، على طريقة غسان كنفاني: «لكن كلانا يفتقد المعنى في لجوئه»، أقول لك؛ «فنحن ولدنا لاجئين بالوراثة، وهم يلجأون اليوم من دون أن ينالوا لقب لاجئ، لعل معنى لجوئنا يتكامل اليوم في لجوئهم، وفي اكتمال المعنى، ما يجعل، الآن وهنا، لهتاف المرحلة «واحد واحد واحد/ فلسطيني سوري واحد» طعماً ولوناً.
تبتسمين لي وأنا أردد لك الشعار بطعمه الجديد، تذكريني بشعار ثانٍ يتناسب وروح المرحلة: «كانت فلسطين في قلب سورية، واليوم سورية في قلب فلسطين الواقعة في قلب الفلسطينيين، وسط مخيم للاجئين الفلسطينيين».
«واحد... واحد... واحد... فلسطيني سوري واحد». نردد الشعار معاً هذه المرة، هنا والآن، وقد اكتشفنا له طعماً من جديد.
مخيم اليرموك ـــ ماهر أبو ماهر