بلغ شهر رمضان ثلثه الأخير. وجوه أبناء مخيم البارد تشي بأرواحهم المتعبة، شفاههم الجافة طوال النهار غير موعودة بأكثر من المياه لتروي الظمأ، وكذا مساءاتهم ليست حافلة بالولائم الرمضانية المعهودة، فلا سوق البارد عاد إلى حيويته، ولا أعمالهم المتقطعة تفي بكلفة إفطار يفوق وجباتهم اليومية العادية جداً. وما يزيد الوجوه تجهما، وصول نازحين جدد من سوريا، من مخيم اليرموك وغيره في الاراضي السورية. لم يكن ينقص مخيمي البارد والبداوي إلا هذا. يكاد لبنان كله ينفجر تحت وطأة تداعيات الأزمة السورية، ومنها قضية النازحين السوريين وما يدور حولها من أبعاد إنسانية وسياسية وأمنية أيضاً. وللشمال عموماً في هذا المجال نكهته الخاصة. أعلام «الجيش السوري الحر» تنتشر في أماكن كثيرة، التضامن مع النازحين يتجاوز البعد الإنساني، والبيئة السياسية ــ الطائفية يمدها النزوح السوري زخماً وقوة.
تتوجه الأخبار إلى أحد الأصدقاء لسؤاله عن العائلات الخمسين التي نزحت من سوريا إلى مخيم البارد. على غير عادته لم يظهر الصديق حماسة لمرافقتي الى الأسر التي تستضيفها، وكأنه لا يرغب بتحويل «العائلات التي نزحت للإقامة عند أقارب لها» إلى ملف جديد، ولا يريد أن يعمّق الشرخ بين المخيم وجواره حول الموقف من النظام السوري، فاكتفى بالقول إن «هروب بعض العائلات من سوريا نتج من شائعات حول إمكان التعرض للفلسطينيين». ومع ذلك استدرك من خلال إرشادي نحو منزل «الأستاذ» أحمد نجيب، المدرس السابق في الأنروا، الذي أوى في منزله أكثر من عائلة. في الطريق، أصادف صديقاً آخر، أبا وسيم الغريب. وبالحذر نفسه نصح بمراجعة اللجنة الشعبية، بدل مقابلة العائلات النازحة «لدى اللجنة الشعبية كافة المعلومات ويستحسن الوقوف عند رأيها».
إلى مسؤول اللجنة الشعبية في مخيم البارد، الحاج أبو سليم غنيم. حاول غنيم أن يشير إلى دور أساسي تؤديه اللجنة الشعبية. ليظهر أن أولويات اللجنة إبعاد المخيم عن التورط في قضايا أمنية وسياسية، من دون أن يشير إلى عجز اللجنة الشعبية عن تقديم مساعدات ذات شأن. ومع ذلك حاول تعداد الإنجازات بالحديث عن «تسجيل النازحين ضمن كشوفات وقوائم»، والاتصال بالأمن العام اللبناني في الشمال لجلاء وضعهم القانوني، منوهاً بـ«التسهيلات وتخفيف الأعباء المالية والرسوم المتعلقة بتأشيرات الدخول»، والاتصال باستخبارات الجيش «للسماح لهم بدخول المخيم والتساهل مع من تجاوز دخوله المخيم مدة أسبوع ولم يجدد إقامته». هذا في الإنجازات. أما في الوعود، فبعد «موافقة الأنروا على تأمين علاج المرضى مئة%، نبذل الجهود لتأمين مساكن للنازحين عبر استئجار الأنروا منازل لهم، أو من خلال فتح المدارس لإيوائهم». وعلى صعيد المؤسسات الأهلية والدولية «غير الحكومية» فقد «تلقينا وعوداً بتأمين فرش وألبسة».
أما الأستاذ أحمد نجيب الذي كان خارجاً لصلاة الظهر، ولأنه لم يرغب ان اقابل ضيوفه، فقد شاء تعويضي بالتضحية ببقائه في المسجد طوال فترة بعد الظهر، لمحادثتي حول وضعهم ولو باختصار شديد. نجيب أسكن ثلاث عائلات في منزل ابنه المهاجر، إذ لا وجود لبيوت للإيجار في المخيم. ثم ما لبث أن برّر عدم رغبة النازحين بمقابلة الصحافيين، لأنهم «سوف يعودون إلى سوريا، والبعض منهم عاد فعلاً»، وأن الفلسطينيين «يخافون أن يذهبوا فرق عملة»، لا «خوفاً من النظام، بل من الفوضى والفلتان الأمني»، علماً بأن الاستقرار بدأ يعود إلى مخيم اليرموك، يضيف نجيب «والمخيمات الفلسطينية في سوريا الآن باتت آمنة». شرحه المقتضب للنزوح الفلسطيني استعاض عنه بالكلام طويلاً عن الوجود الفلسطيني في سوريا. فالفلسطيني يتمتع بـ«حقوق كاملة في سوريا» لا ينقصها إلا بعض المواقع الأساسية في السلطة، وهذا ما لا يتمتع به الفلسطيني في أي بلد عربي. لم يشأ نجيب في البداية التعبير عن موقف الفلسطينيين من الأحداث السورية، فآثر القول إن «الفلسطيني خارج الصراع السوري ــ السوري»، ثم استدرك بالقول «لسنا ضد النظام» لأنه «بسقوطه سيتأثر الوجود الفلسطيني وستتغير المعاملة»، مستشهداً بموقف أحد قادة المعارضة، «برهان غليون ربما»، الذي قال إن «الفلسطينيين أخذوا عشرات الآلاف من الوظائف على حساب السوريين».
أترك مخيم البارد بخلاصة أن لدى أبنائه قلقاً وجودياً حول المصير الذي قد يلقاه الفلسطينيون في سوريا في حال انهيار النظام.
أما في البداوي فالأمر مختلف. بُعيد الإفطار المخيم يعج بالحركة. كرنفال شعبي يتخطى الشارع الرئيس نحو الأزقة الداخلية والشوارع الأضيق. الأحوال المادية على تواضعها تسمح بتلمس بهجة ليالي رمضان وهو يقترب من نهايته. السيارات تزدحم، الدراجات النارية محملة باثنين أو ثلاثة مراهقين، النساء في المساحات القليلة أمام منازلهن في الزواريب الضيقة يرتشفن القهوة، الأولاد ومفرقعاتهم، ضجيج المولدات الصغيرة لا يحجب الفرحة والأمل باقتراب العيد.
الوجوه المتفائلة تسمح بالسؤال عن أي شيء، من لا يعرف يرشدك إلى مصدر آخر، وبسهولة تصل إلى عائلة نازحة من حي التضامن في دمشق الواقع على مقربة من مخيم اليرموك. تقول ربة الأسرة التي تركت زوجها الذي «لا يزال يعمل هناك، على قد حاله، ويتحدث معي هاتفياً، ويطمنني عنه». فاطمة (اسم مستعار) أم الأولاد الثلاثة، بتول وتامر وتقى، «خرجت من تحت الموت، الفوضى مخيفة، العصابات تفعل أي شيء، حتى النسوان صارت تخطف وتطلب فدية لإطلاقهن». «كنا عايشين بألف خير حتى آخر السنة الدراسية، وقع انفجار (حي الأزاز)، وصلت الأضرار إلى المدرسة، فسارع الأهالي إلى سحب أولادهم من المدرسة»، تقول الأم ذلك مضيفة أن الأحداث التي وقعت في بعض أحياء دمشق، دفعت بالسوريين إلى اللجوء إلى مخيم اليرموك، و»ساعتها صارت المشاكل، لم نعرف شو يللي صار، لم نعرف من يقتل من»، لذلك «جئنا إلى لبنان من كثرة الخوف».
تعتقد فاطمة من خلال الاتصال بزوجها أن الأمور تميل إلى الهدوء، وهي تستعجل العودة، لأن أهلها الذين تسكن في ضيافتهم فقراء. بتول وتامر ينامان على فراش أخي الذي انتقل للمبيت في منزل عمه، أما فاطمة وتقى فالنوم على الأرض «على كل حال الدنيي صيف والأرض برود»، مع العلم أن «أهلي لا يملكون إلا مروحة واحدة في المنزل». على كل حال «بدي روح اقعد ببيتي بس تهدأ الأوضاع، البهدلة هنا كبيرة كتير»، و«جمعيات إغاثة النازحين عجقة من دون غلة»، فقد ذهبت فاطمة إلى مركز جمعية الأيادي البيضاء في عكار، لتكتشف أنه «لا نظام، الناس نازلة بالمسبات، أحدهم يقول يا محلا أيامك يا بشار». وتضيف فاطمة أنها استفادت فقط من جمعية البشائر في أبي سمراء بـ«كرتونة إعاشة» بعد أن دفعت ثلاثين ألف ليرة في التنقل بين مراكز الجمعيات.



مقابل الاهتمام اللافت الذي تبديه أكثر من جهة محلية وعربية ودولية بملف النازحين السوريين يسأل أبناء مخيم البارد عن الإهمال المتمادي الذي تظهره وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأنروا، وغيرها من المؤسسات المعنية. يستنكر أحد ساكني البراكسات «عدم رفع الزبالة رغم التواصل مع المعنيين في قسم النظافة». ويتساءل أحمد نجيب عن مبرر اشتراط الأنروا قدوم الشخص المعني لاستلام «كرتونة الإعاشة» بخلاف ما كان معمولاً به على مدى أعوام سابقة. ويضيف نجيب لماذا «إذلال الناس» وذلك بعد أن أحصى وجود 36 شخصاً في غرفة صغيرة، ينتظرون تسلم الإعاشات.