كتبت منذ اسبوعين عن معاناتك كلبناني في وطنك. سألت بماذا يختلف وضعك الاجتماعي والاقتصادي عن اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في «ضيافتكم»؟ اعتبرت ان اصعب شعور هو الاحساس بانك لاجئ في وطنك، وهذا صحيح، ونحن اكثر من يعرف ذلك. لا زلت أذكر عندما دخلنا في احدى المرات الى مخيم برج البراجنة معاً. حينها كانت الكهرباء كعادتها مقطوعة، كما علينا جميعا. سرنا في الازقة، قادتنا اقدامنا للدخول الى اضيقها. كانت الاسلاك الكهربائية تتدلى فوقنا. لامس بعضها رؤوسنا، وبالطبع حمدنا لله ان الكهرباء كانت مقطوعة، فكما تعلم، يموت سنوياً ما معدله عشرة اشخاص في كل مخيم نتيجة صعقات كهربائية، بسبب «تزاوج» إمدادات الماء واسلاك الكهرباء في فضاءات مخيماتنا.
حينها قلت لي «كيف استطعتم البقاء في هذه البيئة لمدة 64 عاماً، من المفترض ان تكونوا جميعكم امواتاً، ففي هذا المكان لا يستطيع اي كائن حي البقاء». ثم صمتّ قليلاً وقلت: «ربما اصبحت مناعتكم اقوى منا نحن اللبنانيين» قاصدا بسبب الصراع القوي على البقاء برغم الظروف الرهيبة. فإن كنا نشبه بعضنا بالمعاناة لدرجة انك تساءلت: بم نفرق عن بعضنا؟ فما الفرق اذاً؟
أما عن الفرق بيني وبينك يا صديقي، فهو انك تملك وطناً تقول انك تشبه اللاجئ فيه. اي انك بالأصل تملك وطنا، تنتقده وتنتقد معاملته لك كلاجئ، فماذا عن اللاجئ الحقيقي في وطنك؟ اي نحن؟ فإن كان المواطن يعامل هكذا، فماذا عن «الضيوف»؟ لديك وطن، تحلم بإصلاحه وبنائه والموت دفاعاً عنه، اما انا فبلادي تقبع تحت الاحتلال، ومن هم في السلطة هناك، اكتفوا بمساحة كراسيهم لتحريرها، متناسين ملايين اللاجئين في الشتات والمخيمات.
يا صديقي، وكما تعرف جيداً، لأنني شكوت لك مرات عدة قرف ما اعانيه إذ احمل بطاقة زرقاء، ان منزلي الذي تربيت فيه، حتى منزلي، وهو باسم والدتي، لا استطيع ان ارثه عنها إذا توفيت، بعد عمر طويل، بل سيتحول الى الاوقاف الاسلامية. الفرق بيني وبينك يا صديقي، انك، بعد عمر طويل، قد يحق لك ان تدفن فوق والدك رحمه الله. لكن تصور أن ادفن في جبانة المخيم، لأني فلسطيني لا يحق لي ان احمل جنسية امي، بينما تدفن هي في جبانة مخصصة للبنانيين. حتى في الموت يريدون لنا ان نتشتت.
صديقي، استطيع تفهم وجعك، واشعر بكل كلمة قلتها. فالفقراء اينما كانوا هم أنفسهم، ووجعهم وهمومهم هي نفسها، فكما يقول زياد الرحباني «المعتر بكل الارض دايماً هوي ذاتو». ونحن الفقراء، أكثر من يعرف ماذا تعني مفردة وطن، ملاذنا الوحيد. ونحن الفقراء اكثر من يشعر بالانتماء لاوطاننا، اذ اننا نعاني مرضاً مزمناً هو امل تحويلها الى جنة لاحلامنا. ونحن الفقراء اذا تعرضت اوطاننا لاحتلال، أكثر من يستميت دفاعاً عنها وسعيا لتحريرها. اما الاغنياء فكل ما يفعلونه هو الجلوس على مؤخراتهم الكبيرة في انتظار موتنا، واذا متنا تبرأوا من «جنوننا»، واذا انتصرنا يشككون في انتصاراتنا.
نحن وانتم ابناء المعاناة نفسها. والفقراء هم أكثر من يستطيعون الشعور بآلام بعضهم. نحن الفقراء اذا ابتسمنا فإن الله وملائكته يبتسمون لابتسامتنا. وبحال بكينا فبكاؤنا يخرج من قاع صدورنا ودموعنا هي غسول لارواحنا التي انهكتها مشقات الحياة. في النهاية، ما الفرق بين حي «الرمل العالي» والمخيم الملاصق لمنزلك؟ لا شيء، مجرد زقاق وهوية. صديقي، ما يجمعنا هو الحلم بأن يكون لدينا اوطان تتسع لأحلامنا.
وفي النهاية، كما قال شهيد فلسطين الاول، نبي الله عيسى ابن مريم: «طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السماوات». اما الارض.. فذلك حديث آخر.