اللاذقية | يتسلل الضوء من النافذة المطلة على الشارع، معلناً بداية يوم جديد. الشارع بدوره يصحو تدريجياً، توقظه أصوات أغلاق المحال الحديدية وهي ترتفع، وارتطام المفاتيح في الأقفال، والسلام المتبادل بين الجيران. مشهد يكاد يوحي بحياة كاملة، لولا ضوء الشمس الذي يلمع فوق صور الشهداء الموزعة في كل مكان فيجعلها أكثر سطوعاً، مذكرة بأنّ الحرب تحدث على مقربة من هنا.
يفتح مُلهم عينيه ببطء، يتكئ على ذراعيه ليجلس بعينين نصف مغمضتين على حافة السرير. يكاد يتهور ويقف، قبل أن يفاجئه، كما كل صباح، الفراغ أسفل نصفه الأيسر. يفتح عينيه بوجل، ناظراً إلى الفراغ الذي كان يوماً مليئاً بجزء حميم منه. يمدّ يده، ليلتقط رجله البلاستيكية الممدّدة أسفل السرير. يثبتها في مكانها، ويقف بقامة صلبة، ليبدأ يوماً آخر من حياته واقفاً.
يصرّ المقدّم ملهم أبو حيدرة، 41 عاماً، على ارتداء «البوط» العسكري، وإن كان مرتدياً لباساً مدنياً. «البوط»، الذي تماهى مع تراب الجبهات، وتخضّب بالدماء الوفية، كان أول ما افتقده يوم خسر ساقه في تفجير إرهابي لسيارته، وكان ارتداؤه أول ما حرص عليه بعد تركيب رجله الاصطناعية. «كنت سايق السيارة بجديدة عرطوز، الساعة 8 الصبح لمّا رمى مسلحون، كانوا بسوزوكي خلفي قنبلة على السيارة فانفجرت، وأنا رميت حالي براتها، وكان المسدس بإيدي عم قوص عليهم، وبهديك اللحظة تطلعت برجلي ما شفتها، كان البوط العسكري معلق على حرف البنطلون، ورجلي الثانية مسلوخ الجلد والعضل عنها، كنت لسّاتني بوعيّي، لما ست ختيارة نزلت ع صوت التفجير. شلحت مريول الجلي يلي كانت لابسته، وربطت فيه رجلي حتى يوقف النزيف بينما أسعفوني للمشفى».

الرجل يلي المفروض
تكلف مليونين و700 ألف، كلفتني 50 ألف ليرة

يرفع ملهم طرف بنطاله ليشير إلى بوطه العسكري ويتابع: «أول فكرة خطرتلي إنهم قدروا يشلحوني بوطي العسكري غدر، بس رح ارجع إلبسه، وليكني رجعت لبسته، ورجعت إحمل سلاح وقاتل».
السيارة التي انفجرت اختلطت بأشلاء ساقيه، أعادت إلى ملهم مشاهد موجعة لرفاق سلاح شاهد أشلاءهم بعينيه، وعاهد ربه أن ينتقم لهم. «4 سنوات حرب وقتال، رفاق سلاح ماتوا قدامي، فقدنا العشرات من أغلى الناس، وعاهدنا ربنا انو ننتقم الهم، ورجعتي للقتال هي عناية إلهية ورضا من أمي وبيي»، يقول.
ملهم، الضابط المهندس، اختصاص تصميم وإنتاج، الذي ينتمي إلى عائلة عسكرية ويفاخر بأن جميع أعمامه وأصهاره ضباط في الجيش السوري، يُنظر إليه بين معارفه ورفاقه في السلاح نظرة خاصة، فهو المقاتل الذي يسير على ساق صنعها بيديه، وحافظ على براعته المعروف بها بالقنص. هو الحائز بطولة الجيش في الرماية، وتسع براءات اختراع. «بعد الحادثة بـ3 شهور ركبولي رجل اصطناعية بالمشفى العسكري، لكنها كانت مؤلمة، وغير مريحة. وأنا مهندس ودرست هندسة عن محبة ورغبة، فقررت إني استخدم عقلي، وإعمل رجلي يلي رح امشي عليها بإيدي وهيك صار. وبعد أيام من البحث والدراسة للمادة يلي بتتحمل رد الفعل على الوزن، وأثناء مغادرة الجسم لسطح الأرض، رسمت مخططات هندسية، وصممت السوكت يلي بيوصل الجزء المبتور بالجسم، بحيث يكون روح واحدة معه، وما يسبب ألم وتخريش، وهي الرجل يلي المفروض تكلف مليونين و700 ألف على الأقل، كلفتني 50 ألف ليرة فقط»، يروي ملهم.
ثلاث سنوات مرت على التفجير، وملهم اليوم ينظر إلى ساقه بثقة وحميمية متجاهلاً فكرة أنها شيء صنعه بيديه. حتى ابنته ميريام، 11 سنة، التي صدّقت والدها حين قال لها إن هذه الساق مؤقتة إلى حين يعيدون له ساقه الحقيقية، تأقلمت بدورها مع ساق والدها الجديدة ولم تعد تسأل عن القديمة. «لما شافتني بنتي لأول مرة بلا رجل، انرعبت وصابتها نوبة بكاء وانهيار عصبي، ما كانت قادرة تستوعب شو صاير، بعدها لما شافت الرجل الاصطناعية، كان الفزع والدمع نفسه بعيونها، قلتلها انو هي رجل مؤقتة لبينما يلاقو رجلي الحقيقية ويرجعولي ياها».
مُلهم الذي لم تكسره رجله التي تهشمت أمام عينيه، كادت نظرة الفزع في عيني ابنته تكسر روحه: «سألتني ليه عملو هيك فيك؟ قلتلها لأنهم إرهابيين وأنا كمان كنت أقتلهم ولساتني عم اقتلهم، قالتلي أنا كمان بس إكبر بدي صير ضابط واقتلهم». لم يترك ملهم الأب، ابنته تغرق في حلم الانتقام القاسي، بل أراد لها حلماً طرياً يليق بطفولتها. أهدى طفلته «غيتارا»، وأستاذا يعلمها كيف تعزف «سورية يا حبيبتي»، و«موطني»، ونشيد بلادها، «لتنشر الفرح والجمال والحب».
«بدي ياها تواجه ها التجربة الصعبة بقوة وما يكسرها يلي صار. خليتها تواجه الحرب والخوف بالموسيقى وحب الحياة. الحياة يلي بتستاهلها هي وكل أطفال سورية. وأنا ويلي متلي، منواجها بالسلاح والدم».