الخرطوم | لا تزال تلك الشركة الشهيرة في مجال تصوير الفيديو تدلّ على موقعها الجغرافي في منشوراتها وبطاقاتها الإعلانية التي تشير إلى أنها تقع في الخرطوم، 3 شارع «بيويو كوان». الشارع أعطي اسم جنرال في الجيش السوداني ينتمي عرقياً إلى جنوب السودان، لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون هو واثنان آخران من أبناء الجنوب أعضاءً في مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني، عندما قامت بانقلاب عسكري، سيطرت بموجبه على مقاليد الحكم عام 1989. غير أن بيويو كوان لم يحمل صفة العضوية في مجلس قيادة الثورة طويلاً؛ إذ وافاه الأجل في ظروف غامضة في سني الإنقاذ الأولى، وتخليداً لذكراه أطلقت القيادة العليا اسمه على أحد شوارع مدينة الخرطوم، ليظل الشارع محتفظاً بذكرى من رحلت أرواحهم عن الدنيا، مثلما احتفظت ذاكرة أبناء شمال السودان بأسماء الجنوبيين التي أُطلقت على بعض ملامح المدينة، رغم مرور عام على إعلان تكوين دولة جنوب السودان. وبدا أن الحكومة في الخرطوم وفي ظل انغماسها في مشاكلها وقضاياها السياسية والأمنية مع جوبا، خلال الاثني عشر شهراً الماضية، لم تلتفت إلى إزالة ما بقي عالقاً من تفاصيل جنوبية من ذاكرة الشعب، فحفظ مواطنو الشمال للمناضل التاريخي الجنوبي علي عبد اللطيف حقه النضالي في محاربة الاستعمار البريطاني، ولا يزالون يطلقون على أحد شوارع وسط الخرطوم اسم «علي عبد اللطيف».
تحدث محمد أحمد، صاحب سيارة الأجرة الذي توقف في أحد تقاطعات شارع «بيويو كوان»، كيف أن الجميع هنا لا يزالون يعرفون هذا الشارع بالاسم الذي أطلق عليه قبل عقدين، قائلاً: «لماذا نغيّر تسمية الشارع؟ هل لأن الجنوب انفصل؟».
واضاف محمد لـ«الأخبار»: «في كثير من الدول تُسمى الشوارع والمعالم البارزة بأسماء شخصيات قومية عالمية أو عربية».
لكن في المقابل، هناك قطاعات في الشمال تحمد للانفصال أنه أسهم كثيراً في تحديد هوية السودان الشمالي، إذ يرى عبد الله علي، وهو ستيني على أعتاب المعاش، أنه بعد مرور عام على انفصال الجنوب لا يشعر بأي حنين إليهم.
وأضاف، متحدثاً بحماسة شديدة: «إنهم شعب اختار أن يكون مستقلاً عنا، فلن نبكي عليهم، سواء مرّ عام أو عشرة أعوام».
ومضى عبد الله بسرد إيجابيات الانفصال وفق وجهة نظره، التي تكمن في تحديد هوية السودان. فحسب رأيه إن ذهاب الجنوب بقبائله الأفريقية جعل بالإمكان إحداث نوع من التناسق في شكل الهوية السودانية، بحيث يمكن أن نسمي التكوين الإثني في السودان أنه خليط لدماء عربية أفريقية. إلا أن مواطنه أحمد حسن، رأى أن «انفصال جنوب السودان هو خطأ تاريخي وقعت فيه القيادة العليا في كل من الدولتين».
وقال أحمد لـ«الأخبار»، وفي نبرة صوته الكثير من الحنين: «عقلي لا يقبل حتى الأن مسألة أن جنوب السودان أضحى دولة قائمة بذاتها، كل ما أحس به أنني فقدت أكثر من ثلث بلدي. كان الأفضل لنا أن نظل موحدين».
في الجانب الآخر، لا تختلف آمال وتطلعات المواطنين الجنوبيين الموجودين بالشمال، كثيراً عن إخوتهم في الشمال؛ فالأمنيات باستدامة السلام، ووداع الحروب والاقتتال نهائياً كانت هي القاسم المشترك بينهم، فضلاً عن التطلعات المشروعة بغد أفضل تتوافر فيه فرص العمل والتنمية المستدامة. وبالتوازي مع انطلاق الاحتفالات بعيد الاستقلال الأول للجنوب في العاصمة جوبا، التي سادتها أجواء الفرحة والاحتفال؛ واصل جنوبيو الشمال حياتهم العادية في العاصمة الخرطوم، وظل الشارع المؤدّي إلى قنصليتهم وسط الخرطوم مكتظاً بأعداد كبيرة منهم، لا تزال تتابع إجراءات استخراج أوراقهم الثبوتية التي تمكنهم من البقاء في الخرطوم من دون مضايقات من السلطات هنا، إلى حين إخلاء طرفهم من الجهات التي ينتمون إليها. وبدا معظمهم غير مبالٍ بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى لاستقلالهم عن الشمال. وربما عاد ذلك، كما أوضح بعضهم، إلى وجودهم الدائم بالشمال منذ سنوات، بل إن بعضهم من الشباب لم يزر الجنوب في حياته.
لادو، وهو موظف في الشمال لم يذهب حتى الآن إلى دولته الجديدة، طالب في حديثه للصحافة بأداء دور أكبر في تثبيت مفاهيم قبول الآخر، وتكسير الحدود بين الشمال والجنوب، معتبراً الجنوب جزءاً أصيلاً من السودان، وشبهه بأنه مثل الأطراف بالنسبة إلى الجسم.
وقال لادو لـ«الأخبار» إن أهم ما يتطلع إليه في العام الجديد هو الحرية. الحرية بكل أشكالها، وخاصة حرية الحركة والتنقل بين البلدين، حتى تعود الحياة بينهما إلى طبيعتها. كذلك تمنى أن يسود السلام في بلاده ولا يعود القتال الذي حصد الكثيرين من أهله. ولم يبد لادو أي شعور بالحزن لعدم سفره إلى عاصمة الجنوب لحضور الاحتفال بعيد الاستقلال، بالرغم من أنه عدد الأسباب التي حالت دون ذلك، وحصرها بالصعوبات اللوجستية، وصعوبة توفير تكاليف السفر إلى جوبا. لكنه أكد أنه متفائل من المستقبل في بلاده، داعياً الشماليين إلى الانفتاح نحو الجنوب، حتى تعم الفائدة البلدين.
أما جيمس، وهو طالب يدرس في الخرطوم، فقد تحدث بسعادة ظاهرة على وجهه عن تطلعاته، وبلاده تدخل عامها الثاني بعد الاستقلال، وقال إنه ليس حزيناً لأنه لم يسافر لحضور الاحتفال بالاستقلال، مشيراً إلى أن ذلك ليس ضرورياً، فهو أيضاً لم يحضر احتفال إعلان الاستقلال العام الماضي.
وقال لـ«الأخبار» إنه يتطلع لحدوث تنمية حقيقية في الجنوب، في هذا العام، وأيضاً توفير فرص العمل للشباب هناك. وتمنى تطبيق الحريات الأربع بين الشمال والجنوب بصورة كاملة، حتى تعود الحياة في الحدود إلى طبيعتها المعتادة، وألا تكون هناك عودة إلى مربع الحرب مرة أخرى بين البلدين. أما صديقه، واسمه جيمس أيضاً، فقد رفض التحدث، متعذراً بأنه طالب ولا علاقة له بالاحتفالات، مكتفياً بالقول إنه لم يفكر أصلاً في السفر إلى جوبا لحضور احتفالات عيد الاستقلال.