منذ الخامس عشر من حزيران الماضي، يستمر على الطريق العام في ما يسمى منطقة المخيم الجديد في نهر البارد، الاعتصام المفتوح لأهالي المخيم المنكوب اكثر من مرة. خيمتان متجاورتان وسط الطريق، تتكئ على إحداهما لوحة كبيرة تصوّر مسجد قبة الصخرة وعلم فلسطين، وعبارة شهداء مخيم البارد تتوسط صورتي الشهيدين أحمد قاسم وفؤاد لوباني، وفي خلفية اللوحة صورة أبنية قيد الترميم، وبين الأبنية حركة ناس وسيارات، تؤشر إلى خروج الناس من بين ركام المخيم المدمر.
بجوار الخيمتين طاولة ومجموعات من الكراسي وأشياء أخرى يعلوها «شادر» عملاق، يغطي مساحة أكثر من مئتي متر مربع مفتوحة على أرجاء المخيم. تبدو تلك المساحة كأنها مركز قرار البارد بعد تاريخ الخامس عشر من حزيران، وهو اليوم الذي «ما بعده ليس كما قبله».
هذه العبارة الأخيرة، باتت لازمة تلهج بها ألسنة أبناء المخيم، الصغار كما الكبار، والقادة كما عامة الناس. «جدار الخوف سقط»، قضايا المخيم كلها على بساط البحث: دور الفصائل واللجان الشعبية، المشايخ ورجال الدين، الجيش اللبناني، علاقة المخيم بالجوار، القريب منه والبعيد.
في عام 2007 دمر مخيم البارد في المعارك بين الجيش اللبناني وتنظيم فتح الإسلام. مرت خمس سنوات عانى في خلالها أبناء المخيم المنكوب ظروفاً قاسية، لم تستطع فصائل منظمة التحرير وفصائل قوى التحالف الفلسطينية إحراز تقدم ملموس للتخفيف منها، الأمر الذي أضعف الالتفاف الشعبي حولها، حتى إن بعضها تراجع حضوره وتراجع عديد عناصره إلى عنصرين أو ثلاثة عناصر فقط. بمقتل الفتى أحمد قاسم انفجر الوضع في المخيم، وراوح الحراك بين فصائل عاجزة عن تلبية رغبات الشارع وقوى أخرى حاولت جرّ المخيم إلى مواجهة شاملة مع الجيش اللبناني. وازداد حرج الفصائل الفلسطينية التي تتحسس معاناة أبناء المخيم، وفي الوقت نفسه تخشى تمرير أجندات خارجة عن نطاق المخيم، كما أن اللجان الشعبية في المخيم لم تكن اسماً على مسمى، بمعنى تمثيلها لقطاعات الشعب في المخيم، بل كانت عبارة عن ستة عشر مندوباً عن الفصائل الموجودة في المخيم، ثم أضيف إليها أخيراً مندوب عن مجلس الأئمة والخطباء في المخيم. ويقول زياد شتيوي من سكان البراكسات، وتدليلاً على ضعف تمثيل بعض التنظيمات إن مسؤول أحد التنظيمات المكونة «من المسؤول ومن عضو آخر فقط»، ينتدب العضو نفسه ليمثل التنظيم في اللجنة الشعبية وفي لجنة الفصائل! لذلك، يضيف شتيوي، إن «فقدان الثقة بالمرجعيات التقليدية من فصائل ولجان شعبية ومشايخ» دفع الناس إلى الالتفاف حول «شخصيات موثوق بها» ومعروفة داخل المخيم، مثل الحاج أبو وليد غنيم.
في ساحة الاعتصام يجلس الحاج غنيم مع جمع من أبناء المخيم، لدى مقابلته يقترح الانتقال إلى منزله الملاصق لساحة الاعتصام. إلى الطابق الثالث، يصعد الحاج الدرج بصعوبة متكئاً على عصاه، بسبب خلل في المادة الغضروفية في ركبتيه، يستفيد من بطء خطواته ليمرر أكثر من خبرية. فالبناء الذي يتقاسم شققه مع إخوته «مسجل باسم زوجتي اللبنانية لأن الفلسطيني لا يحق له التملك». مع العلم أن البناء احترق أثناء معارك عام 2007، «ولولا معجزة إلهية لكان مكتبي قد احترق، وضاعت الأوراق التي تثبت حقوق أصحاب عقارات في المخيم الجديد على مساحة ستين ألف متر مربع».
لدى سؤاله عن القوى التي توجّه المخيم في اعتصامه المفتوح، يرى الحاج أن الحادثة التي أشعلت احتجاجات المخيم ليست بذاتها سوى «الشعرة التي قصمت ظهر البعير»، مقارنةً بخمس سنوات من «إذلال عاشه أهالي المخيم». ويضيف الحاج: «ماذا يعني إلزام حفيدي ابن الأعوام الاثني عشر بحمل تصريح دخول لكي يستطيع الدخول إلى بيته؟»، ثم يستدرك سريعاً، وهو الذي سعى جاهداً لمنع الاحتكاك مع عناصر الجيش، بقوله «لا نريد أن يتخلى الجيش عن أمن المخيم، فهو ظهرنا الذي نستند إليه، حيث ليس للثورة الفلسطينية قوائم تقف عليها». ورأى الحاج أن الناس «عندما سمعوني أحكي معاهم بعقل وهدوء، قالوا لي أنت تمثلنا وما تريده نحنا بأمرك».
في ساحة الاعتصام، أفصح مسؤول الجبهة الشعبية عماد عودة، وعلى مسمع من الموجودين، عن «وجود فجوة بين الشباب والفصائل الفلسطينية»، وأقرّ بـ «سخطهم ولومهم اللجان الشعبية»، لكن من دون أن يصل الأمر إلى «التشكيك في مرجعية الفصائل». وأضاف عودة «بادرنا كفصائل بمصالحة مع المجتمع»، فخلال السنوات الخمس الماضية «كل شيء كان طوارئ، المخيم مدمر، العلاقات مضروبة»، لذلك فهذا «الحراك فرض علينا استعادة دورنا وتطويره، من خلال الأندية والأنشطة المعبرة عن تطلعات الشباب، وهو ما يشجعهم على العمل السياسي، وعندما نشتغل «صح» مع الشباب سوف نجدهم يتابعون أكثر»، وختم عودة بالقول «لن نعود إلى المربع الأول، بحيث يكون الشباب في مكان واللجان والأطر التنظيمية في مكان آخر».
بدوره لم يكن مخيم البداوي بعيداً عما يجري في البارد، سواء بسبب قرب المسافة أو بسبب شدة التفاعل بين المخيمين، لأن قسماً ممن لجأوا إلى البداوي عام 2007 لا يزالون يقيمون فيه، وهذا ما أكده مسؤول حركة حماس في الشمال جمال الشهابي، الذي أشار إلى استمرار الاعتصامات في البداوي تزامناً مع اعتصامات البارد.
وبما يشبه ما يحصل في البارد، ثمة نشاط شبابي في البداوي تتوزعه لجان «تنسق مع الفصائل حتى لا تحدث أخطاء لها تداعيات على المخيم». هذا ما قاله ممثل اللجنة الإعلامية في اعتصام البداوي محمد اللحام، الذي شدد على الدور المرجعي للفصائل، لكن «الحراك مكوّن من الهيئات المجتمعية والمؤسسات الأهلية»، وأضاف اللحام إن «خيمة الاعتصام أقيمت أصلاً لغاية محددة بمؤازرة أهالي البارد، لكنها أصبحت أداة يمكن أن تخدم في مسائل نضالية أخرى».
وكما في البارد كذلك في البداوي تحولت ساحات الاعتصام، وخصوصاً في ساعات المساء، إلى ملتقى يقصده الجميع. خليل ناصر رميح قدم من ألمانيا التي يقيم فيها «وبجواز سفري غير المحترم هنا، أسست مهنة في ألمانيا»، وتوجه إلى الدولة اللبنانية بالقول «بس شوية حرية، ومعاملة الناس زي البشر، وما حدا له مصلحة بمشكلة مع الجيش، اعطوهم حقوقهم بيرتاحوا وبيريحوا»، وأضاف في رده على من يتحدثون عن رفض التوطين «أنا في ألمانيا حيث أعيش في دولة تحترمني وتقدر إنسانيتي، ورغم أنهم يسمحون لي بالسفر مباشرة إلى فلسطين، فأنا أرفض أن أعود إلى أرضي إلا عندما يصبح لدينا مطار فلسطيني، وهذا يؤكد أن إحساسي وارتباطي بقضيتي، لم يتراجعا مع تمتعي بحقوقي المدنية».




تلقى فلسطينيو الشمال تعيين د. خلدون الشريف كرئيس للجنة الحوار الفلسطيني اللبناني بتفاؤل. فالرجل من طرابلس وهو أقرب الى فهم معاناتهم. وكان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قد التقى عدداً من قادة الأجهزة الأمنية وممثلين عن قوى التحالف، وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية. وجرى التأكيد على إلغاء نظام التصاريح وتخفيف الإجراءات العسكرية حول المخيم، وإطلاق سراح الموقوفين على دفعات، كما طالب الجيش بتسليم المنازل الواقعة في منطقة برايم «أ» إلى أصحابها، وحلّ قضية المقبرة في أرض صامد. وأكّد ضرورة إجراء مصالحة بين المخيم والجيش، واعداً بمتابعة ملف إعمار المخيم مع الأونروا.