يطيل المواطن الفلسطيني ماجد خلف النظر إلى ركام منزله الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي ليلة مجزرة الشجاعية الشهيرة ( 20 تموز 2014) وقتل فيها 74 شهيدا. ووفق القاعدة الشعبية التي تقول «الحيّ أولى من الميت»، لا يستذكر خلف في جلسته اليومية المجزرة ومن رحل فيها ممن يحب، بقدر ما تحيط به حسرته على البيت الذي هُدم بعد شهرين من أول مرة سكنه فيه، وعلى أسرته المشردة.
يقول خلف، الذي يعمل معلماً حكومياً، «قبل الحرب بيوم واحد كنت قد سحبت قرضاً من معاشي وعفّشت البيت بخمسة آلاف دولار، لا أزال أسدد الأقساط مع عشرين ألف أخرى تداينتها للبناء». وبرغم أنه فقد مع بيته مشروعاً تعليمياً قضى ست سنوات من عمره في سبيل إنجازه، فإن تنقله بين شقق الإيجار ومكابدته «طمع أصحاب البيوت»، أكثر ما يحرق قلبه اليوم.
قد تبدو أسرة خلف المؤلفة من سبعة أطفال أفضل حالاً من عائلة الدرديسي التي تسكن أحد «الكرفانات» الحديدية شرق مدينة خانيونس، جنوبي القطاع، حيث قضى ابنها حمادة، ابن الشهور الثلاثة، متجمداً من شدة البرد، لينضم إلى قائمة من قتلهم الحر والكهرباء والغرق في وقت سابق.
وصحيح أن الركام أزيلت غالبيته، لكن مشاهد الدمار لم تختفِ من شوارع غزة بعد، لأنه خلال عشرين شهرا لم تنجز عملية الإعمار سوى 1600 منزل من أصل أحد عشر ألفاً ينتظر أصحابها دورهم في أنظمة الإعمار، التي تقتسمها الدول المانحة. وبرغم الوعود التي حصلت عليها وزارة الأشغال بإنجاز خمسة آلاف وحدة سكنية، فإن ناجي سرحان، وهو وكيل وزارة الأشغال، أكد أن عملية الإعمار لا تزال في البدايات وتسير ببطء شديد، مضيفا في حديث إلى «الأخبار»، أنه «بخلاف المنازل المهدمة كلياً، هناك قرابة 145 ألف منزل تضررت جزئياً ولم ترمّم بعد».
وسط كل العقبات، جاء إعلان الاحتلال أنه أوقف إدخال مواد البناء إلى غزة، بسبب ما وصفه بأنه «خرق» في نظم التوزيع. وتتهم إسرائيل، حركة «حماس» باستغلال مواد البناء في بناء الأنفاق، الأمر الذي نفاه وكيل وزارة الاقتصاد الوطني في غزة، عماد الباز، مطالبا الاحتلال بتقديم «دليل يثبت استغلال المقاومة الإسمنت المخصص للإعمار».
وبموجب الخطة التي اتفقت عليها السلطة والأمم المتحدة وإسرائيل، يخضع الإسمنت الذي يدخل غزة، لعملية رقابية مشددة تبدأ بتحديد 200 مركز تجاري مرخص إسرائيلياً لتوزيع الإسمنت في غزة على قوائم الأسماء التي يوافق عليها الاحتلال، ثم تراقب مراكز التوزيع بالكاميرات على مدار الساعة. وتنتهي الخطوات الرقابية بعدّ أكياس الأسمنت قبل تسليمها، ثم بعدّ الفارغة بعد الانتهاء منها، مع تصوير مواقع البناء في كل مرحلة.
لكن عملياً، يبقى الالتزام بمعايير توزيع الإسمنت التي حددتها «خطة روبرت سيري» وضمان منع حدوث خروقات، التزاماً نسبيا، لأن وجود خروقات أمر طبيعي في ظل منطقة منكوبة وتعيش عائلاتها حالة فقر كبيرة. ويعزي الخبير الاقتصادي مازن العجلة حدوث «خروق» إلى اتساع حجم السوق الذي تسير فيه دورة البيع والشراء والتوزيع. ويقول لـ«الأخبار»: «نتعامل مع سوق فيه مئات الأطراف ذات العلاقة من باعة ومستهلكين ومؤسسات وأفراد وعائلات، لذا لا نتكلم عن مصنع صغير يمكن مراقبته، بل مجتمع شامل... حتى لو كان التزام القطاع الخاص نسبيا لا كليا فهذا هو المستوى الصحي بالنظر إلى حجم الأطراف في هذه العملية».
وفي وقت سابق، ذكرت تقارير أعدتها «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ــ أونروا»، بالشراكة مع مؤسسات دولية، أن قطاع غزة كان يحتاج قبل حرب عام 2014 إلى أكثر من 75 ألف منزل كي تتساوى الزيادة السكانية مع ما هو مطلوب من وحدات عمرانية، ما يعني وفق وزارة الاقتصاد أن الاحتلال لم يسمح خلال سنتين سوى بدخول ربع الكمية المطلوبة لبناء المنازل المهدمة، كما لم يتجاوز مجموع الإسمنت الذي دخل غزة من عامين 400 ألف طن، فيما تتطلب عودة الوضع إلى واقع ما قبل حرب 2014 دخول مليوني طن.
ومن الممكن أن يعطي ارتفاع سعر طن الإسمنت في اليوم نفسه الذي منعت فيه إسرائيل دخوله إلى 600 دولار أميركي للطن (سعره الطبيعي لا يتجاوز 100 دولار)، مؤشراً على واقع عملية الإعمار التي من المتوقع أن تستغرق أكثر من 15 عشر عاماً إذا بقيت الأمور تسير بهذه الآلية، علما بأن «خطة سيري» حددت سقف إعمار غزة بخمس سنوات، وفق ما قاله العجلة.
تبدو الاعتبارات السياسية السبب الأقرب لفهم قرار منع الإسمنت

أمام هذا الوقائع يقول وكيل وزارة الاقتصاد، عماد الباز، إن غزة «وقعت ضحية لخطة روبرت سري للإعمار التي وافقت عليها السلطة في رام الله وأيدتها الدول المانحة، لأنها خطة تشرعن الحصار بلون مختلف».
لكن الإسمنت ليس المشكلة الوحيدة، فقد كشف المتحدث باسم الـ«أونروا»، عدنان أبو حسنة، عن إحجام الدول المانحة عن الوفاء بالتزاماتها التي تعهدتها في مؤتمر إعادة الإعمار الذي عقد في العاصمة المصرية منتصف تشرين الأول الماضي، وقال لـ«الأخبار»، «لم يصل إلى خزينة الأونروا سوى 250 مليون دولار من أصل 750 مليونا تعهدت تقديمها دول مؤتمر الإعمار، لذا لم تبن الأونروا حتى اللحظة سوى 80 وحدة سكنية دمرت كليا، بينما توجد 750 أخرى قيد البناء».
وتعلق الدول المانحة أسباب تأخرها في دفع المال على شماعة عدم التزام الأطراف توصيات البيان الختامي للمؤتمر، وأهمها سيطرة السلطة على قطاع غزة كليا، فضلاً عن حاجة هذه الدول إلى ضمانات إسرائيلية بعدم هدم الوحدات السكنية التي سيعاد بناؤها من جديد. لكن ماذا لو لم تتحقق هذه الشروط؟ يرى العجلة أن «الانقسام الفلسطيني يعطي الاحتلال الذريعة في عرقلة عملية الإعمار، لعدم وجود جهة فلسطينية مسؤولة ومعترف بها أمام العالم تتولى شؤون الحكم في غزة».
كذلك لا تغيب الرسائل السياسية عن الخطوة الإسرائيلية بمنع دخول الإسمنت، وهو الرأي نفسه الذي يذهب إليه الكاتب أكرم عطا الله، الذي يرى أن الاحتلال «على دراية كاملة بأن للمقاومة مصادر دعم لوجستي خاصة تغنيها عن مد اليد لإسمنت الإعمار؛ إسرائيل بحاجة إلى الضغط على غزة للمحافظة على استمرارية حالة الإشغال، عن طريق استحداث الأزمات، وإبقاء ملف الإعمار معلقاً لسنوات، وهذا كي تقوض إمكانية دخول المقاومة في أي مواجهة مستقبلاً». ويضيف عطا الله عن تزامن هذه الخطوة مع التحرك الإعلامي الأخير في ملف الجنود الإسرائيلين المفقودين في غزة، بالقول: «ربما يريد الاحتلال أن يستعرض أوراق قوة لديه كي يدفع (كتائب) القسام إلى مزيد من المرونة».
يشار إلى أن وزير الأشغال في حكومة الوفاق، مفيد الحسانية، قال إن وزارته بالتعاون مع «دائرة الشؤون المدنية» تجري مباحثات «إيجابية» مع الجانب الإسرائيلي لحل مشكلة دخول الإسمنت.
إلى ذلك (الأخبار)، بدأت قوات «الأمن الوطني»، التي تديرها «حماس»، تعزيز وجودها وإجراءاتها الأمنية، على طول الحدود مع مصر، وذلك بعد أيام من ختام مباحثات أجراها قادة من الحركة، مع مسؤولين في جهاز «المخابرات العامة» في القاهرة. وفي الوقت نفسه، تستمر لقاءات «حماس» مع عدد من الفصائل في غزة لإطلاعها على نتائج زيارتها إلى القاهرة، ولقاءاتها الثنائية الأخيرة مع «فتح» في الدوحة. وقال القيادي في «حركة الجهاد الإسلامي» خالد البطش، في تصريحات صحافية، إن «حماس دعت كافة الفصائل والقوى الوطنية لوضعها في صورة ما حدث من حوارات في الدوحة ومصر بعد الفجوة التي حدثت مع المصريين».