ضرب محمد مرسي الرقم القياسي في حلف اليمين. واحد للتحرير والثاني للدستورية والثالث في جامعة القاهرة. تسلم السلطة بعدها من العسكر في «الهايكستب»، وهزّ مشاعر جماهير الإخوان ومن بقي معهم من الثوار، لكنه في احتفال النخبة أعلن انتصار الجماعة. الرقم القياسي جعل مرسي محط أساطير جديدة: الرئيس الشعبي، عبد الناصر الإخواني، عمر بن الخطاب الحديث. وراجع البعض الصورة القديمة عن المرشح الاحتياطي. ها هي كاريزماه، ها هي كراماته. إنه يبتسم للشعب. وها هم الجنرالات يعطونه التحية العسكرية والمدافع تضرب طلقاتها.تسلم السلطة… هذا ما كاد ينطق به مرسي في خطاباته المتعددة، حيث ظهر في كل خطاب بوجه. والأوجه المتعددة جعلته مثيراً، يملأ حكايات تخرج للمرة الأولى من حفلات تنصيب كانت مملة وبلا مفاجآت طيلة 30 سنة فقدت طقوس السلطة إثارتها.
المشهد مثير وعاطفي، ويهز المشاعر التي كانت جامدة، لكنه يربك العقل الذي لا يزال متيقظاً. الثورة لم تقم من أجل قائد جديد، ولكن من أجل فرد جديد. وهذه هي طفولة الثورة التي لا تتحملها قطاعات كثيرة بعضها شارك في الثورة. الثورة تغير موقع الفرد في المجتمع ولا تبحث عن بطل يصنع المعجزات. وهذه دلالة وصول مرسي إلى مقعد الرئيس. تغيرت الدراما السياسية وخرجت من حالة الجمود إلى حالة الإثارة والدهشة.
مرسي هنا يخرج من دوره الذي عاش فيه، قيادي إخواني، يستطيع التحشيد، ويتحمل معاناة السجن والتهديد، ويعيش في هامش التوافق بين السلطة والجماعة. مرسي خرج إلى دراما جديدة عليه تماماً. مع دخوله هذا العالم تغيرت تفاصيل في المشهد. مرسي ليس البطل المنتظر، ولا قائد الثورة، كما تسرع المراهقون في السياسة وحركتهم العاطفة ليلة القسم الرمزي في الميدان. إنه الشخص العادي عندما يدخل ماكينة الدولة، فتحاول ابتلاعه ويربكها بعفويته وبجدول ارتباطاته القديمة.
المشهد المؤثر هو محاولة إفلاته من المساحة المرسومة له على المسرح. يفلت لكن في حدود المساحة بين طابور الحراس. يفلت ليفتح الجاكيت ليثبت أنه بدون القميص الواقي من الرصاص. يفعل هذا بعفوية وينسى أنه يقول ذلك وأمامه دروع بشرية من النوع الضخم. يريد مرسي أن يفلت، لكنه مضبوط على إيقاع العلاقة بين نظامي الدولة والجماعة. على إيقاع لا يصنع قائداً أو زعيماً بالمعنى الذي أفرزته وابتذلته مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار. مرسي ليس زعيماً، لكنه قد يسهم في أن يبني أساساً جديداً لعلاقة الفرد بالسلطة. وهذه هي المساحة التي قد لا يلتفت إليها المرعوبون من وصول إخواني إلى الرئاسة أو ما تردده هستيريا الفلول من «أخونة» الدولة. مرسي تبتلعه ماكينة الدولة بالتدريج، وهو لا يواجهها أو يتصادم معها، لكنه يستخدم أسلوب المقاومة الشعبية للسلطة في مصر: التحايل. هكذا، فإنه لا يرفض قرارات الإعلان الدستوري، لكنه يقيم استعراضاً عاطفياً في الميدان ليمرر القسم أمام المحكمة الدستورية.
إلى أين يمكن أن يقود خطاب التحايل؟ غالباً سيكسر السطح المتحجر للصورة القديمة، لكنه سيدفع مرسي إلى موقع في الدراما قد يجعله محاصراً في القصر بوعوده العاطفية. الرئيس أعاد الشعبوية إلى الرئاسة. وهي مهمة ثقيلة أو تورط أصعب من أن يتحمله لأنه يحتاج إلى جهاز دولة يتقن هذه الشعبوية. وهو ما يحدث في دولة استبدادية مثل إيران أو فنزويلا أو ليبيا.
شعبوية الرئيس لطيفة وتحرك العواطف التي ظلت جامدة راكدة طوال ٣٠ سنة. لكنها خطر على الرئيس نفسه. ماذا سيفعل «خريج» تنظيم السمع والطاعة، الذي يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى «الهليهلي»؟ (شخصية محدودة الذكاء غير قادرة على مواجهة المواقف وحسن التصرف).‏ هل يمزق بين الدولة أو الجماعة؟ أم يكسر بطابعه «الهليهلي» طبيعة الأبوة الحاكمة للفرد بدون أن يقصد؟ أم سيظل باللعب بمبدأ «اضرب ولاق» على إرباك دولة عجوز لم تعد تملك هامش مناورة كبيراً. دولة تملك طقوس الدولة، لكن حكامها أفرغوها من معناها عبر جولات استبداد وهزيمة وسنوات انحطاط امتصت فيها الطفيليات نضارتها؟
خروج مرسي عن النص مؤثر فعلاً. من اهتمامه بتفاصيل لم تكن عين الدولة تلتقطها (حكاية تأجيل امتحانات الطلاب) وقدرته على الاعتذار (كما حدث مع الفنانين وأهل الإبداع) وإمكانية تعديل خطاباته (عندما وجد تعبير عشيرتي خارج المنطق غيّره بتعبير الأحباء).
مرسي رئيس عنده قلب، كما لم يكن في مصر طوال ٣٠ سنة. وهذه ميزة قد تسهم في تحرير الفرد من سلطة دمرت الروح ببردوتها وحكمتها القاتلة. وقد تصنع للرئيس موقعاً بجوار عصام شرف في مرمى السهام المتحفزة لكل من يتصور أن السياسة مجرد إنشاء وبلاغة.



سياسة القطعان الخائفة

كل شيء الآن محل اختيار، ووحدة الزمن السياسي هي يوم واحد، تأجل الحكم على التأسيسية لتمنح اللجنة الحالية فرصة، بينما قدم حل وسط في مسألة حلف اليمين أمام المحكمة الدستورية. حل لا يلغي القرار ويضع بعض كريمات الترطيب على الوجوه التي سخنت عروقها وهي تحلف أغلظ الأيمان بأن مرسي لن يحلف إلا أمام مجلس الشعب.
هذه بدع جديدة في السياسة. بدع تثبت أن القطعان الخائفة ستزداد خوفاً، لكنها لن تصبح صاحبة اليد الوحيدة في بناء المستقبل. المستقبل سيبنيه الخائف من الطرفين، لكنه لم يعد وحده هناك العاقل أو الواثق من الإرادة الجديدة أو المدافع عن دولة حديثة يحترم فيها الفرد.
سياسة القطعان الخائفة أوصلت أعداء الدولة الحديثة الى البرلمان وأخرجتهم من سراديب جهاز أمن الدولة وتعليماته، ليتصدّروا مشهد البناء.
الآن هم فرجة المشهد كله، يرفضون الوقوف احتراماً لنشيد الجمهورية، ورمزها، ليؤكدوا للجميع أنهم أصبحوا خارج السيطرة، باعوا الخوف لجمهور مسالم، قالوا له الإسلام في خطر وامنحنا صوتك للدفاع عن الإسلام. ولم يدافعوا في المجلس إلا عن وجودهم والمرشد والعسكر... هؤلاء الذين اعتبروا السلام الجمهوري بدعة، ابتدعوا قصائد المديح في مصطفى بكري عندما شتم محمد البرادعي وحاصروا زياد العليمي دفاعاً عن قداسة المشير.