هذه رسائل كتبتها إلى صديق طفولتي الذي انتقل من جدة في السعودية للعيش في غزة سنة 1992، والذي لم أره أو أسمع عنه شيئاً منذ حينها.الرسالة الرقم واحد (نيسان 1996): «في هذه الحرب التي تفنن الإعلام بتسميتها (عناقيد الغضب)، فهمت للمرة الأولى ما تعني كلمة حرب. هي شيء مختلف عمّا شهدناه معاً في حرب الخليج. هنا يا صديقي، لم نكن نغطي الزجاج بالنايلون الأزرق لنوحي للطائرات أننا مدنيون. هنا لا فرق بين مدني وعسكري. هنا يُقتل الأطفال بلا رحمة. هنا نرى الجثث على شاشة التليفزيون. هنا أنا لا أكاد أتجاوز التاسعة من عمري أرى جثث الأطفال من عمري تنتشل من تحت الركام. هنا أنا لا أبقى في المنزل، بل أتنقل، من ملجأ في فيلا مجاورة لمنزلي إلى منزل عمتي. هنا عمتي لا تسمح لنا بإشعال المصابيح، تخاف أن ترانا البوارج الإسرائيلية حتى وهي في عمق البحر! هنا تتشوّه طفولتي. هنا تضيع ذاكرتي عن أيام الصبا واللعب. هنا أنا خائفة. هنا تعلمت أن أكره.
هنا اختلفت مقاييس حياتي كلها وأنا مجرد طفلة في التاسعة. هنا رأيت طائرة العدو تحوم فوق رأسي وأنا أغني النشيد في ملعب المدرسة. هنا عدت إلى البيت وأكملت السنة الدراسية من دون كتب أو مدرسة. أنا بخير. طمّني عنك؟!».
الرسالة الرقم اثنين (تموز 2006): «هذه الحرب مختلفة. عشر سنوات كانت كافية لأن أنسى، ثم أستجمع ذاكرتي. لم أترك البيت إلا بعد أسبوعين. كانت المرة الأولى التي يرموننا فيها بالمناشير كي نغادر، أول مرة في حياتي أرى منشوراً إسرائيلياً مكتوباً باللغة العربية. ركيكة هي لغتهم العربية! هنا سأتعلم شيئاً جديداً: النزوح. أفتح باب خزانتي. ماذا سآخذ معي؟ سؤالٌ قد يكون من أغبى الأسئلة التي تراودني وأنا أفكر تحت القصف العنيف، ماذا سآخذ معي؟ سألبس بيجاما مريحة، وحذاءً رياضياً، فقد نضطر إلى أن نمشي! فقط، هذا ما سآخذه معي، ألا يكفيني من الأثقال ثقل همومي! لن أحمل معي أكثر! في السيارة لا أفكر لحظة في ساعة الموت. أنا خائفة، نعم أنا خائفة. ما العيب في أن أبكي؟ لكنني لا أفكر لحظة في الموت، لا أدري إن كنت موقنة أنها ليست ساعتي للموت! أفكر في من معي بالسيارة. كم هو غريب الخوف! ألا نتذكر الله إلا عندما نشم رائحة الموت؟ صوت القرآن يعلو داخل السيارة. يا جلالة ملكوتك يا ربي إذ تحميني وأنا أرى الجسور والمباني تتهاوى من خلفي: جسر الزهراني ـــ مبنى القرض الحسن في منطقة الغازية... وأنا أمر من دون خدش. ها قد وصلت إلى بيت أصدقاء عائلتي في بشامون. أنا حية أرزق، وأنت؟ طمّني عنك؟!».