نعجز عن الاختفاء
أربعة وستون عاماً مضت انقضت والدروب ما برحت تائهة بنا.
تتعرّج كلما قرُبت المسافات. تارة نسير فوقها. وتارة تسير فوقنا.
فتحوّل الدماء سراباً. أجسادنا أوهنها تعب الرحيل والسفر الدائم. كلما أردنا أن نتذكّر، يفرضون علينا النسيان بإثارة مسألة أخرى. فتزداد شهيّة الانتقام.
ونشهد موت ربيعنا في رحم العتمة وفي الوجوه الجامدة أو المتجمدة. وفي كل حركة وسكون وفي كل همسة من همسات الزمن الغارق في العهر حتى الأذنين.
خمسة وأربعون عاماً والنكسة قد صارت نكسات. يقرفنا أن نرى صور العهر العربي معلّقة على أبواب «البيت الأبيض»، وعلى جدران «الكنيست»، وهي ليست شواهد ضعفٍ ووهنٍ بل تردٍ وعارٍ وهزيمةٍ ومهزلةٍ تتربع في عمق نفوس الملوك والأمراء والرؤساء.
نحاول البقاء، فيصرّون على رحيلنا أو ترحيلنا إلى غياهب المجهول. نسعى إلى أن نظل أقوياء، فيعمدون إلى إضعافنا، كي تصبح «قضيتنا» مجرد طيف خيالٍ. نعجز عن الاختفاء ويصبح زعترنا مُرّ المذاق.
أذكر أن وجوه «العربان» في ما مضى من الأزمان كان تسوّد إذا ما أنجب أحدهم أنثى.
أما اليوم فإنها تسوّد أكثر إذا ما علموا أن فلسطينية أنجبت ذكراً. تهون عليهم دماء أطفالنا وشيوخنا والنساء، فنُقتل على «الهوية»...
في «البقعة» و«عجلون» و«جرش» و«اربد» و«تل الزعتر» و«جسر الباشا» و«الضبيه» و«صبرا» و«شاتيلا» و«برج البراجنة» و«مار الياس» و«الرشيدية» و«عين الحلوة» و«المية ومية» و«جنين» و«الشاطئ» و«البص» و «البرج الشمالي» و«الهول» و«التنف»... و... و«نهر البارد»...
و لـ«البارد» حكاية أخرى. حكاية ستقصّها الجدات على الأحفاد. فهو القضية. والقضية هو. وما بين مخيمين تبدأ وتنتهي القضية. ما بين مخيمين ضباب ألوان كثيفة. وكان الحلم يتشظّى حين غادرت المخيم.
وفي اغتسالي من نزفي شاهدت وطني يُذبح للمرة الألف.
ورأيت «الخوذ الفولاذية» و«أكياس رمل» على باب المخيم.
فأيقنت أن طعم جرحي سيكون مُرّاً ، زمهريري الألم. فأنين الجرح ينبعث من بين الرماد، ووقع الصدى يزرع في القلوب الأحقاد. خمس سنوات طوت أيامها ولياليها الداكنة على جرح البارد، ويسأل الجنين في بطن منتهى خليل: بأي ذنبٍ قُتلت أنا ووالدتي؟ أما نايف صلاح فما زال هائماً يبحث عن قاتله. وتصدق نبوءة أبو سمير السعدي، بأن أحجار المخيم سيُردم بها البحر. لكنه لم يتنبّأ بأنه سيموت في السجن لا لذنب اقترفه إلا لأنه ابن المخيم. وليندا جبر تسأل عن شقيقتها أما زالت حيّة؟ تبحث عن كتبها بين الأنقاض لعلّها تفهم تفاصيل ما حصل.
وعبد اللطيف يستعد لموسم الصيف ولم يعرف أنه سيكون شديد الحرارة.
وجهاد أبو العز يلقي نظرة الوداع على أيام «العز».
ومحمود يُصرّ على أن تخرج خطيبته ويبقى ليحرس بيت الزوجية، فيغادرنا إلى الأبد. وفوزية وهبه تُصرّ على البقاء فتتحوّل إلى أشلاء.
تربكني التفاصيل... وتتمرد الأسماء... وتتشوّه الذاكرة...
فيمثل أمامي أولئك المساجين القابعون خلف قضبان القهر وذنبهم أنهم أحبّوا مخيمهم.
ويطل علينا مسيلمة ليقطع علينا طريق الأمل ويزرع دروبنا باليأس والأشواك. فـ«الشراكة في المسؤولية» أضحت عبئاً يجر علينا الأذى والعار. وأبو لهب، «الشيخ المبتل الساقين» يفتي بوجوب قتلنا واستباحة أعراضنا وهتك شرفنا وسرقة منازلنا. ويتسابق لنيل الألقاب والأوسمة. وأبو رغال يمنّ علينا ببعض حبّات الأرُز ليستبيح فينا عشق الحياة والكرامة. وتكتمل المعزوفة الجوفاء وتصير النكبة ظلاً لنا تحتل فينا الافئدة. وتعيث الثعالب خراباً في كروم الأمل...
أين أنا؟ ومن أنتظر؟
فالمخيم قد رحل... وما عاد يُزهر فيه حبق أو ياسمين.
والنعناع غادر شرفة الحديقة، والجوري أضحى عطِشاً،
وصغُر مدار الأحداق، وكبر الألم. وعدنا إلى محطتنا الأولى والأشواك السامّة تنسّل في أجسادنا. ونظام التصاريح يُعطّل لغتي الإنسانية وبوح الكلام.
لا أدري من هو الغريب: أنا أم المخيم؟
أخشى انزلاق طيفي في وهج «النموذجية».
أبحث عن أبي، عن صورته، عن ظلّه... أشتاق إليه فلا أجد مكانه. وينتابني الحنين إلى مدرستي، فلا أجدها.
أبحث عن بعض الذكريات علّها ما برحت تحت الأنقاض.
أتوق الى سوق المخيم، إلى طلعة «جيش التحرير» ومطعم «سليم الخليل». إلى سهرات الشباب على «الشارع العام». أبحث عن دكان «أبو حسين الدحل» و«مقهى أبو أحمد درويش» كمن يبحث في جزر الأوهام. علّني أجد دكان «أبو الحجل» أو «زعل»، فتقهقه السخرية مني.
أيها المخيم: أنت غريب عني وأنا غريب فيك.
ولكن عذري أني غادرتك لأحميك.
ولو كنت أعلم أن الثعالب ستراقصني، لرقصت رقصتي الأخيرة بين أحضانك.

عثمان بدر ــــ مخيم نهر البارد