الخرطوم | كان أمس يوماً مصيرياً في تحديد مسار الحركة الاحتجاجية السودانية، التي أشعل فتيلها النظام الحاكم بتنبيه سياسات اقتصادية وصفها بالتقشفية. النظام أراد معرفة حجم الذين سيلبون أول نداء منظم للتظاهر، لمعرفة خطواته في الأيام المقبلة. في المقابل، سيطر التوجس والقلق منذ الصباح على المحتجين الراغبين في اكتساب التظاهرات زخماً جديداً، تؤهلها لتشكل تهديداً يفضي إلى اسقاط النظام. الناشطة س. ع. أجرت منذ الصباح اتصالات مكثفة بأصدقائها المقربين ليحددوا خط سيرهم. اتفق الجميع على أن تكون البداية من نقاط التجمع التي حددها الناشطون على صفحات التواصل الاجتماعي، وهي في الغالب المساجد الكبيرة في المدن الرئيسية. لكن الناشطة التي تحدثت لـ«الأخبار» من مسجد الأنصار بودنوباوي، لم تتمركز في النقطة القريبة جغرافياً من منزلها، إذ إنها وجدت هناك المصلين فقط داخل المسجد يؤدون صلاة الجمعة، ولا أثر لوجود أي تجمع احتجاجي، وهنا تملكها القلق أكثر لكنها لم تيأس، فقد تحركت مباشرةً ناحية مسجد السيد عبد الرحمن المهدي الشهير بحي ودنوباوي في مدينة ام درمان، حيث يؤم المصلين زعيم حزب الأمة القومي المعارض الصادق المهدي. وما إن وصل المهدي حتى وجد ترحيباً شديداً من قبل الجموع التي ضاقت بها جنبات المسجد والساحة الخارجية له على غير العادة. وعلت هتافات تنادي بإسقاط النظام وتندد بسياساته، لكن هذه الحال لم تدم طويلاً، فبعد الفراغ من الصلاة، بدأ المصلون بالخروج إلى الشارع لتتحرك إثرها قوات الشرطة، التي كانت تحيط بكل الشوارع المؤدية إلى المسجد، وتعاملت بعنف مع المتظاهرين، محاصرةً المسجد، ومنعت الدخول أو الخروج منه. أما من نجحوا في الخروج، فاستعملت الغاز المسيل للدموع لتفريقهم، ما أدى إلى حدوث حالة إغماءات كثيرة، ولا سيما وسط الشيوخ والأطفال، فضلاً عن تسجيل اعتقالات بحق بعض المحتجين. واللافت أن المتظاهرين لم يكونوا من جماعة الأنصار المؤيدة للصادق المهدي، بل إن الغالبية كانوا من شباب الحي والأحياء المجاورة. وفي السياق، تحدث ناشطون عن وجود خطأ تنظيمي في الدعوة إلى تظاهرات أمس، إذ إن الشرطة سبقت الحشود إلى الميادين والساحات التي حددها المنظمون كنقاط تجمع، ما أدى الى عزل المتظاهرين وملاحقتهم وسط الأحياء السكنية.
بيد أن ذلك لم يمنع سكان مدينة «شمبات»، في الخرطوم بحري ثالثة مدن العاصمة المثلثة، من الخروج في تظاهرة، غير آبهين بقوات الشرطة والأمن التي كثفت وجودها في ميدان «الرابطة»، وهو الميدان الرئيسي في المنطقة، حيث خرج ما يفوق الـ500 من شباب الحي ونسائه يهتفون بإسقاط الحكومة. وروى أحد المشاركين في تظاهرة «شمبات»، لـ«الأخبار»، أن الشرطة ألقت قنابل مسيلة للدموع على المتظاهرين. وأفاد أيضاً بأن قوات الشرطة والأمن ترجلت للحظات من السيارات، إلا أن الشباب الغاضب أجبر أفراد القوات النظامية على العودة إلى سياراتهم مرةً أخرى، مكتفين بمراقبة الوضع، فيما بدأت النسوة بإطلاق زغاريد، لافتاً إلى أنها «ربما لن تكون زغاريد النصر بقدر ما هي زغاريد نزع الخوف من النفوس».
وفي مدينة القضارف في شرق السودان، دعا شباب المدينة للخروج إلى الساحات العامة، غير أن قوات الشرطة والأمن كانت لهم بالمرصاد، وتمت ملاحقتهم داخل الأحياء السكنية، وذلك حسب شاهد عيان من القضارف، أكد أن شباب المدينة مصرّون على مواصلة التظاهر ليلاً. أما في مدينة الأبيض غرب السودان، فخرج المصلون من مسجد المدينة الكبير إلى السوق الرئيسي، في موكب احتجاجي على الحكومة القائمة وسياساتها. كذلك شهدت أحياء أمبد في أمدرمان والحاج يوسف الردمي والسامراب في الخرطوم بحري احتجاجات واسعة، حيث عمل المحتجون على قطع الطرق الرئيسية وإشعال إطارات السيارات. وخرج المصلون من مسجد علي الميرغني ببحري، وهو المسجد الذي يقصده أنصار الطائفة الختمية التي يتزعمها محمد عثمان الميرغني، رئيس الحزب الاتحادي الأصل، في حين لم لم تكن هناك أية تجمعات غير حشود الشرطة والأمن في الخرطوم المدينة، حيث دواوين الحكم. وكثفت الشرطة من وجودها بصورة لافتة للأنظار، فيما بدا لافتاً خلو المدينة من حركة المواطنين.
وبدا واضحاً أن التوقيت الزمني الذي اختاره المنظمون للتظاهرة كان عاملاً مهماً في حدوث النجاح الجزئي في «جمعة لحس الكوع»، إذ إن تجمع صلاة الجمعة يعتبر أكبر تجمع يمكن أن يحدث خلال أيام الأسبوع، رغم أن أئمة المساجد الكبيرة، ومن بينهم إمام مسجد الخرطوم الكبير، دعوا المصلين إلى عدم الخروج في التظاهرات وعدم «الالتفات إلى المخربين وعملاء الدول الأجنبية الذين لا يريدون خيراً للبلاد» .
ويسود اعتقاد واسع لدى مراقبين، أن المواطنين لا يزالون في حالة خوف، ما ينعكس احجاماً عن الخروج في التظاهرات. لكن الثابت حتى الآن أن حركة الاحتجاجات ستتواصل، وخصوصاً أن قطاعات من الاتحادات المهنية بدأت الانضمام إلى التظاهرات، وقد بدأها أول من أمس اتحاد المحامين السودانيين. ويرى أستاذ العلوم الساسية، حسن الساعوري، أن الاحتجاجات من الممكن أن ترقى وتصبح ثورة في حال تفاعل معها الشارع، لكن الشارع في رأي الساعوري لا يزال يقف موقف المتفرج. وأوضح لـ«الأخبار» أن الاحتجاجات لا تزال محصورة في المجموعة المنظمة لها، لافتاً إلى أن مسألة من يكون البديل من أهم الأسباب الموجودة التي تمنع الشارع عن الخروج. كما أن الخوف من حالة الفوضى بعد اسقاط الحكومة تعتبر رادعة للكثيرين. واعتبر الساعوري أن ما يحدث الآن في المدن السودانية عبارة عن احتجاج على ارتفاع الاسعار أكثر من كونه دعوة إلى إسقاط الحكومة.