إن أحداث هذه القصة مرتبطة بالواقع وتمتّ له بالصلة...رحلت مع عائلتها إلى بلدٍ في أوروبا، كانت قد سئمت من المخيم وقررت الرحيل مثل الكثيرين مِمَن رحلوا قبلها وبعدها طوال الستين سنة. هم رحلوا ومن دون رجعة، ولكن هي عادت، عادت جثة هامدة مُحمّلة في كفن. سئمت من العيش في المخيم، ولكنها كانت قد كتبت في وصيتها الأخيرة «عندما أموت، أعيدوني إلى لبنان وادفنوني في المخيم». غريبٌ هو هذا الارتباط اللامنطقي مع المخيم، يمقتون عيشته، ولكن لا يُدفنون إلا فيه!

كانت تعرف منذ فترة قريبة، قبيل مفارقتها الحياة، أنها ستموت. أوصت زوجها وأولادها بأن تُدفن في المخيم في لبنان. ماتت، فعادت، وبالطبع فإن إكرام الميت دفنه كما يُذكر في الدين، ولكن أين؟ حتى القبر، هو في النهاية، قطعة أرض ليس مسموحاً للفلسطيني أيضاً بأن يمتلكها في لبنان، كما تعرفون، فلو دُفن الفلسطينيون في لبنان، فلن يبقى مكانٌ للموتى اللبنانيين كي يُدفنوا، ما سيهدد السلم الأهلي، ويزعزع استقرار البلد. ستمتلئ المنابر بالرافضين لمشروع التوطين، سيتعارك الأحياء مع الموتى على حصةٍ في الأرض، و«رح تخرب البلد»! ومع ذلك قرر الزوج والأولاد العودة مع الزوجة المتوفاة إلى لبنان، فمن يدري؟ فقد تتعاطف الأوقاف الإسلامية وتتبنّى دفن الجثة مع منحها قبراً كي تُدفن فيه! عاد الجميع، تهيّأ مجلس العزاء، رُفعت الصلوات، وبقي دفن الجثة قيد الانتظار ثلاثة أيام!
تتناقش العائلة مع الخالات والعمّات «إكرام الميت دفنه، ما بيجوز الجثة تظل بالبراد، هادا حرام!» تقول العمة، يردّ الزوج «والله بعرف، بس وين؟»، يسأل الابن «مش كان دفناها بأوروبا أحسن؟». يصرخ كبار العائلة «حرام! شو بيعرفك كيف بيدفنوا الموتى هناك؟ بلكي مش عالطريقة الإسلامية؟ بلكي حنطوا الجثة؟ بلكي...»، تقاطع الجدة «هي وصّت تندفن هونا، إذا ما عملتوا اللي وصّت فيه، حرام!». يوم، يومين، ثلاثة أيام مرت ولم تُدفن الجثة بعد. أُجّل مجلس العزاء بانتظار ردّ من الأوقاف الإسلامية، فالصلاة على الميت قبل دفنه واجب، ومن بعدها يبدأ مجلس العزاء. «والحل؟»، يسأل الزوج شيخ الجامع في المخيم، «الحل إنو ندفنها وين ما كان هنا! هاي أرض مشاع وما حدا سائل! بس تيجي الدولة تطالبنا نخلي بيحلها ألف حلّال!» يرد الشيخ. هكذا دُفنت جثتها. نفّذ زوجها وأولادها وصيتها كي تنام مرتاحة مع غيرها من الموتى الذين دفنوا أيضاً بطريقة غير قانونية في ذلك المخيم المنسي.
ملاحظة: اتّضح أخيراً أن الأرض ليست مشاعاً بل تعود لمالك لبناني، وبدأ المالك بمطالبة عدد من العائلات في المخيم بإخلاء منازلهم كي يجري هدمها.