البارد والبداوي | «تعب مجتمعنا من الموت، ولا قرار بمواجهة مع الجيش» هكذا يلخص الموقف الناشط الفلسطيني خالد اليماني ابن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. اليماني الذي تعب بدوره من العمل السياسي، ويمّم شطر الأنشطة المدنية باعتبارها أحد أشكال النضال الوطني الفلسطيني. يدرك مخاطر استهداف الجيش اللبناني «الذي ليس خائناً بالوعي الفلسطيني»، لكنه يعود إلى أصل المشكلة. ففي عام 2007 استُدرج الجيش «غصباً عنه إلى مخيم البارد»، ومع ذلك «صار في جرح»، وعِوض اقتسام «النصر» بين الجيش والمخيم، «عومل أبناء المخيم على أساس أنهم مهزومون».قد يضاف تاريخ الخامس عشر من حزيران الماضي إلى قائمة التواريخ المفصلية في سيرة المعاناة الفلسطينية الطويلة. في هذا التاريخ استشهد الفتى أحمد قاسم وهو يمارس عمله في توزيع المياه في جوار المنطقة التي شهدت مواجهات بين أهالي البارد والجيش اللبناني على خلفية إشكالات، حدثت بدورها نتيجة توقيف سائق دراجة نارية. وخلال تشييع الفتى قاسم استشهد فؤاد لوباني. مرة أخرى، لم يكن لوباني من المحتجّين على الجيش اللبناني فحسب، بل كان يدفع الصبية الذين كانوا يقذفون الحجارة على مبنى يتمركز فيه عناصر الجيش.
انقضت الأيام العاصفة التي اجتاحت البارد، وامتدت إلى توأمه مخيم البداوي، ولم تسلم منها باقي المخيمات. يوم الخميس قصدت الأخبار مستشفى الهلال في البداوي الذي مرّ به أغلب جرحى البارد. إدارة المستشفى قالت إن أصحاب الإصابات البالغة نقلوا إلى مستشفيي الإسلامي والحكومي في طرابلس، وإن جرحى الهلال خرجوا، وكان آخرهم المهندس محمد لوباني الذي غادر منذ دقائق. وأشار أحد الأطباء إلى إمكان اللحاق به، فهو يسير ببطء صوب منزل أخيه ثائر في زقاق بآخر المخيم، لا تصل إليه السيارات.
في منزل ثائر حين وصلنا قبل الجريح، كان أفراد العائلة والأقرباء ينتظرون. لإمرار الوقت راح عباس موسى يخبر عن الإصابة التي تعرض لها في معتقل أنصار أثناء انتفاضة أسرى المعتقل، ويختم موسى بإجراء مقارنة بين خروجه من أنصار في عملية تبادل، «أكثر إصراراً على النضال ضد عدونا الأوحد إسرائيل»، وبين أن «نقتل أو نجرح في مواجهة صديق»، فيؤكد «أننا تحت القانون اللبناني لكن نريد أن نعامل كبني آدمين». يصل الجريح لوباني، يتمدد ليرتاح قليلاً على مقعد يعلوه إطار فيه آيات مخطوطة، وفي إحدى زواياه صورة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. يقول لوباني إن خسائر العائلة بلغت شهيداً (ابن عمي فؤاد) وثلاثة جرحى، وجريحاً رابعاً من قريتنا الدامون. ويشرح المهندس أنه «بعد انتهاء جنازة أحمد قاسم اتصل بي عمي محيي الدين (والد فؤاد)، فجئت ومعي ولداه فؤاد وأمين، لنجده يتعارك مع صبية وشبان يرشقون الحجارة على مبنى الجيش في صامد قرب بيت عمي. بدأنا نبعد الشباب حتى وصلنا إلى مركز بيت المقدس. ولدى محاولتنا العودة، أطلق جندي النار على فؤاد فسقط على الأرض جريحاً. نادى فؤاد أخيه أمين ليساعده فأصيب الآخر وتكوّم فوقه. وأنا هربت لأحتمي بمركز بيت المقدس. ولمّا توقف إطلاق النار، خطوت نصف متر بنِيّة التوجه لسحب الجريحين، فأصبت بطلقة في الخاصرة».
ويضيف «يذكّرني المشهد بمأساة محمد الدرة، وأنا أفكر في أن أرحل من المخيم» يقول لوباني، ويتابع بعد تنهيدة « لا أريد أن أظلم الجيش اللبناني كله، فالموجودن في صامد يعرفوننا ونعرفهم جيداً، ولدينا معهم علاقات يومية أكثر من جيدة، ولكنّ جندياً واحداً أطلق النار علينا من الطبقة الرابعة، وكان يشاهدنا بوضوح، ولم يطلق النار على أي من الذين كانوا يرشقون المبنى بالحجارة».
وإلى مخيم البارد حيث هدأت الأمور نسبياً، وتحولت الاحتجاجات إلى «اعتصام سلمي حضاري» في داخل المخيم، وعادت الحياة تدب ببطء في المحال التجارية التي يملكها الفلسطينيون على أوتوستراد العبدة، أخبار المفاوضات بين الفلسطينيين ومديرية المخابرات في الشمال حديث الساعة في مجمع حسين الخطيب التجاري كما في المحال الأخرى. يقول الشاعر شحادة الخطيب، مدير المجمع، «المطلوب حل الموضوع جذرياً، وليس المشكلة الأخيرة، فهي نتيجة وليست سبباً، والمشكلة ليست مع الجيش الذي ينفذ القوانين ولا ينصّها، كما أن المشكلة بحد ذاتها لم تكن بين أبناء المخيم كلهم والجيش اللبناني كله، وإذا كان ارتباطنا عريقاً بأهلنا اللبنانيين، إلا أننا ضد الأجندات اللبنانية الخاصة»، وأضاف الخطيب غامزاً من قناة وفد المشايخ الذي زار المخيم «كل من يريد أن يتضامن معنا فليكن من غير تحريض ومن دون تصفية حسابات». أما مدير الحسابات في المجمع التجاري الحاج جمال فكان أكثر حدة بقوله إن «الإدارة الأمنية للمخيم تذكّرنا بالتحري المشهور باسم بصل الذي كان يمر في الستينيات في شوارع المخيم ويدق على حيطان المنازل ليأمر أصحابها بالنوم بعد الثامنة مساءً». وخلال المناقشة يرن هاتف أحدهم. لحظات، ثم يخبر أن اجتماع الوفد الفلسطيني بمدير المخابرات في الشمال عامر الحسن انتهى. أبدى الحسن تفهّماً للمطالب، ووعد بإجراء تحقيق شفاف في مقتل أحمد قاسم وفؤاد لوباني، وبتخفيف الإجراءات، وبوقف الملاحقات، وبإلغاء نظام التصاريح اعتباراً من شهر تموز المقبل، ولكنه تمنّى فضّ الاعتصامات في مخيمي البارد والبداوي.
ارتفعت حدة النقاش بين مرحّب ومتحفّظ ورافض. كان الجو نموذجياً في تمثيل الشارع الفلسطيني في البارد، وفي عكس درجة التأزم المرتبطة بأوضاع أبنائه المعيشية. مدير المجمع رأى في نتيجة المفاوضات كسباً يبنى عليه، على طريقة «خذ وطالب». المحاسب تحفظ بقوله «إذا تصرف الجيش بحكمة تكون القصة قد انتهت هنا». أما أحد عمال المجمع فقد انتفض قائلاً «مشكلة المخيم لا علاقة لها بالحدث الأول (الدراجة النارية) ولا بالحدث الثاني (التشييع)، الموضوع خمس سنوات من المهانة والذل، فإذا خرجت مريضة بسيارة الإسعاف ونسيت تصريحها من شدة مرضها لا يسمح لها بالعودة من المستشفى، وإذا...». يتدخل شخص رابع « الدهان أبو هاني». يقول : « لماذا نوقف الاعتصامات ما دامت سلمية؟ هل كان المسؤول الأمني ليستمع ثلاث ساعات لوفد فلسطيني من دون اعتصامات؟ ألم تكن الوفود تنتظر ساعات قبل حصول لقاء يستغرق دقائق؟ ثم لماذا المفاوضات مع الأمن والعسكر؟ أليست قصة المخيم سياسية واجتماعية؟ لمَ لا تكون العلاقة مع المحافظ مثلاً؟
مساء الخميس الماضي نصبت في مخيم البداوي خيمة الاعتصام التضامنية مع مخيم البارد، رفعت لافتة وسط الشارع العام «نعم لاجئون... لكن من حقنا العيش بكرامة لحين العودة إلى فلسطين، نعم لرفع الحالة العسكرية عن مخيم البارد وإلغاء التصاريح».
نعم نعم... ولكن هل سيتفادى الجيش فخ المواجهة مع مخيمات أنهكها التعاطي الأمني وتريد فقط أن تحيا بسلام؟



أعادت خيمة الاعتصام المفتوح في البداوي إحياء نبض الشارع الفلسطيني، على وقع أناشيد الثورة الفلسطينية. خيمة جاهزة نصبت، كراسٍ متواضعة جلس عليها بعض قادة الفصائل وكبار السن من أهالي المخيم، ورشة عمل لنصب خيمة كبيرة أخرى انطلقت. مسؤول حركة فتح في الشمال أبو جهاد فياض قال للأخبار «الوضع متأزم في البارد منذ خمس سنوات، والحادث عابر وفردي، ولو جرى التعاطي إيجاباً في موضوع الدراجة النارية لما حدث أي إشكال». أمين سر الفصائل في الشمال يوسف حمدان يوزع على وسائل الإعلام المذكرة الموجهة لقيادة الجيش ملخصة مطالب المعتصمين، والاعتصام مستمر إلى حين تحقيق المطالب.