مخيم اليرموك | تسأله أمه مريم «لماذا قتلته يا بني؟»، فيجيبها: «لا أتذكر شيئاً». «ولكنهم قالوا لي أنت قتلت السيناتور!». هذا الحوار لم يؤخذ من سيناريو فيلم سينمائي، بل سؤال الوالدة لابنها سرحان بشارة سرحان، المتهم باغتيال المرشح الرئاسي الأميركي روبيرت كينيدي؛ سرحان شاب فلسطيني من مواليد مدينة القدس 1944. هاجرت عائلته بعد النكبة إلى الولايات المتحدة وهو في الثانية عشرة من عمره.
أنهى دراسته في ثانوية «جون مايور» باسادينا ــ كاليفورنيا في عام 1963 قبل أن يتابع دراسته في جامعة المدينة، لكنه تركها بعد عامين ليعتني بأخته عايدة، التي كانت تصارع مرض «اللوكيميا»، رغم أنه كان مجتهداً في الدراسة، وقد اختار أن يدرس لغتين من أصعب اللغات، الروسية والألمانية، كدراسة جانبية. يصفه من كان يعرفه بأنه فتى هادئ ومهذب. مع ذلك أُدين بجريمة اغتيال كينيدي في 5 حزيران 1968، لينال على أثرها حكماً بالإعدام. خُفف لاحقاً في عام 1972 إلى المؤبد. اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود قضاها في سجن بليزنت فالي ــ كاليفورنيا، لا يزال سرحان حياً ويكافح من أجل استعادة حريته، التي سُلبت بسبب جريمة لا يذكر منها شيئاً!
تُعتبر قضية سرحان من أعقد القضايا العالقة، والتي أُعطيت صبغة سياسية، على اعتبار أنّ طرفها الأول فلسطيني والثاني مرشح للرئاسة الأميركية. كما ترتبط بفعل «تآمري»، لم يكن القتيل وحده ضحيتها، وانما أيضاً المتهم بالقتل، وفق سيناريو يشبه سلسلة الأفلام المسماة «المرشح المنشوري»، والتي عُرض آخرها منذ فترة قريبة، وكان بطله الممثل الأميركي دينزل واشنطن.
لقد اعترف سرحان بجريمة لا يتذكر أنه ارتكبها، لكنهم أقنعوه بذلك. في الجلسات الأولى للمحاكمة، قال للقاضي: «هذه الجريمة ضدّ طبيعتي وطفولتي وعائلتي وكنيستي وصلواتي والأنجيل يا سيدي». طُلب تنفيذ حكم الإعدام فيه، لأنه كان مقتنعاً في البداية أنه القاتل. في وقت لاحق، حاولت هيئة الدفاع إثبات أنه وقع ضحية مؤامرة، أحد أطرافها جهاز الاستخبارات الأميركية المسؤول عن مشروع «م ـ ك ـ ألترا» الخاص باجراء الدراسات المتعلقة باعادة البرمجة النفسية والعصبية للأشخاص ودفعهم للقيام بمهمات محددة دون أن يدركوا ذلك.
خلال محاكمته حاول عدد من الأطباء تنويمه مغناطيسياً مرات عديدة لجعله يتذكر الجريمة، وكانت المفاجأة أن الشيء الوحيد الذي تذكره هو أنه كان يطلب القهوة قبل أن يقفز إلى اللحظة التي أمسكه فيها الناس وانهالوا عليه بالضرب بعد عملية الاغتيال. في النهاية فشلت هيئة الدفاع في إقناع المحكمة بهذه الفرضية.
دليل آخر يؤكّد هذه الفرضية، هو ما ذكره إد لوبيز، المحقق السابق التابع للكونغرس الأميركي، حول رؤيته لصورة تُظهر ثلاثة رجال يعملون في وظائف حكومية مختلفة متواجدين في ساحة الجريمة في فندق الإمبسادور، رغم أنهم ليسوا معنيين بمهام الحماية. أحد هؤلاء الرجال يدعى، جورج جونيدس، وهو المشرف على مشروع «م ـ ك ـ ألترا» قاعدة ميامي. وفي السياق نفسه، ذكرت قناة «A&E» الأميركية أن الدكتور وليام بريان، مدير المشروع، قد اعترف قبل وفاته بأنه قام بتنويم سرحان مغناطيسياً.
قد يعتقد البعض أنّ فرضية «المرشح المنشوري» ومشروع إعادة البرمجة مجرّد وهم لا أساس له من الصحة، لكن هنالك أدلّة تؤكّد على الأقلّ أنه تم التآمر على سرحان ليعاقب على جريمة قتل بدلاً من عقوبة اطلاق النار. لقد قدم الباحث والمؤلف الأميركي، جيمس فيتزر، في مقالة نُشرت في حزيران 2010، عدداً من الحقائق التي تقود في هذا الاتجاه: أولاً، وبحسب التقرير الطبي، أُطلقت النار على كينيدي من مسافة قريبة «1.5 أنش» في الرأس وراء أذنه اليمنى، وسرحان لم يكن بهذا القرب. وبحسب الصور، كان على الدوام أمامه. ثانياً، أظهر الطبيب الشرعي، توماس هوغوتشي، في تقريره أن كينيدي أُصيب بأربع طلقات من الخلف، ولم يشر إلى سرحان كقاتل. ثالثاً، هنالك خمسة أشخاص آخرين أُصيبوا بعيارات نارية في الحادثة. رابعاً، عدد العيارات النارية التي أُطلقت كان أكثر من 11 عياراً. خامساً، لا يتسع مخزن مسدس سرحان لأكثر من 8 طلقات فقط. سادساً، أكّد شاهد عيان يدعى دوين ولفر أن الطلقات التي أصابت كينيدي كانت من سلاح مختلف تماماً عن سلاح سرحان. سابعاً، تأكيد شاهدة عيان تدعى سارة سيرانو أنها رأت امرأة تخرج مسرعة من مكان الحادثة وهي تصرخ (قتلناه. لقد قتلنا كينيدي). أخيراً وليس آخراً، التلاعب بالأدلة بحيث جاءت تقارير الشرطة متناقضة، اضافة الى قيام لجنة التحقيق بإحراق 2400 صورة فوتوغرافية سرّاً، من بينها الصور التي التقطت في لحظة إطلاق النار، وفقاً للمصور الصحافي سكوت إنيارت، الذي كان هناك وصوّر تلك اللحظات.
ليست تلك المؤشرات وحدها التي تدعم فرضية المؤامرة، بل هناك المزيد. بحسب الأكاديمي جيرالد رينولدز، من المحتمل أن يكون القاتل الحقيقي هو تان يوجين سيزر، أحد الحراس الشخصيين لعائلة كينيدي، الذي رآه أحد شهود العيان وفي يده مسدس يخرج منه الدخان مباشرة بعد سقوط كينيدي. ووفقاً للقناة الرابعة، لقد فشلت الشرطة في استجوابه بعد الحادثة مباشرة، لكنها استجوبته في عام 1978، أي بعد عشر سنوات من الحادثة، ولم يُثبت عليه شيء، لتتمسك الشرطة بروايتها القائلة بعدم وجود مؤامرة وإن القاتل هو سرحان.
وفي تطور جديد، عرضته قناة «فوكس نيوز»، فإن محامي سرحان طالب بإعادة المحاكمة بعد حصوله على دليل جديد يُثبت أن 13 عياراً نارياً أُطلقت في الحادثة. أسباب تدفع مجتمعةً الى الشك في رواية الاغتيال.
في آخر مقابلة لسرحان مع الأكاديمي جيرالد نولدز قبل عامين، قال «لقد سرقوا مني حياتي وتركوني أتعفن في هذا المكان»، معبراً عن قناعته ببراءته. ورغم السني الطويلة التي قضاها في السجن، لكنه لا يزال يأمل أن الحقيقة سوف تظهر يوماً وتعيده إلى الحرية.



دوافع الاغتيال و«المرشح المنشوري»


زعمت هيئة الادّعاء أنّ سرحان سرحان (الصورة) اغتال روبرت كينيدي بسبب دعمه للعدوان الاسرائيلي عام 1967. لكن تقارير حاولت الكشف عن مدى تورط الاستخبارات، مشيرةً الى أنّ السبب الحقيقي هو موقف كينيدي المضاد لجماعات الجريمة المنظمة وعلاقتها المشبوهة مع مسؤولين رفيعين في الاستخبارات.
أما بالنسبة إلى مصطلح «المرشح المنشوري»، المرتبط بمؤامرة توريط سرحان بالجريمة، فيأتي من عنوان رواية الكاتب الأميركي ريتشارد كوندون في 1959. تدور أحداثها حول عدد من الجنود يتم أسرهم خلال الحرب الكورية عام 1952، ويوضعون في معتقل خاص في منطقة منشوريا الصينية. وهناك تجري عملية غسل أدمغتهم، ويُحملون على الاعتقاد بأن أحد زملائهم، ريموند شو، أنقذ حياتهم. وبعد انتهاء الحرب يعود شو إلى الولايات المتحدة ويحصل على وسام الشرف، ويعمل في جهاز الاستخبارات، ليُكتشف لاحقاً أنه عميل «نائم» مبرمج مغناطيسياً للقيام بعمليات الاغتيال ثم نسيانها.
وتم ربط هذه التسمية ببرنامج التحكم بالعقل الذي عملت عليه الاستخبارات منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحمل أسماء عدّة، منها «أرتشوك » و«م ـ ك ـ ألترا».