تمضي السلطات السودانية في سياساتها الاقتصادية التقشفية لتطويع موازنة الدولة، التي أصبحت شحيحة الموارد بعد خروج عائدات البترول من جيوب الموازنة، حتى تتمكن من تسيير دولاب العمل في الدولة. وشهدت معظم السلع الاستهلاكية الأساسية، كالسكر ارتفاعاً جنونياً. كما أقرت الحكومة رفع الدعم عن المحروقات، حيث زادت أسعار الوقود وغيره من المحروقات إلى الضعف. وإن كانت تلك الزيادات قد أقرها أمس نواب الكتلة البرلمانية، التي يسطر عليها الحزب الحاكم بنسبة كبيرة، إلا أن فئة من الشعب السوداني لم تقر السياسات الاقتصادية الجديدة، وخرجت إلى الشارع تجاهر بذلك الرفض. إذ ارتفعت، لليوم الرابع على التوالي، في الخرطوم، أصوات احتجاجية تندد بتلك السياسات الحكومية الجديدة.
وبدا كأن سوء الأحوال الجوية وهبوب العواصف الترابية منذ صباح أمس، كان عاملاً محفزاً لطلاب الجامعات للخروج مجدداً إلى الشارع، ولا سيما أن سرعة الرياح تساعد في حمل ذرات الغاز المسيل للدموع بعيداً عن مقل المتظاهرين. وشهدت جامعات الخرطوم والنيلين والسودان تظاهرات طلابية تصدت لها قوات مكافحة الشغب، التي كانت منذ مطلع الأسبوع الحالي بالمرصاد لأي تحرك. وانضم إليهم طلاب معهد الدراسات المصرفية، حيث فرقت الشرطة حوالى 200 طالب من كلية المصارف، كانوا ينادون «الخرطوم المدنية أن تنهض وتثور في وجه حكامها».
وأكدت شاهدة عيان لـ«الأخبار»، أن قوات الشرطة فرقت الطلبة المتظاهرين في شارع الجامعة بالغاز المسيل للدموع، لافتةً إلى أن حركة المرور في الشارع قد أصيبت بشلل شبه تام، بعدما أغلقت الشرطة الشارع لحصر المتظاهرين داخل أسوار الجامعة، خوفاً من انتقال التظاهرات الى المواطنين في الشارع العام. ووفق شاهد عيان آخر، تحدث لـ«الأخبار»، فإن مجموعة من الطلبة ينتمون إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم، كانوا يوزعون الأسلحة البيضاء (سواطير) والحديد المسلح على بعضهم البعض. ووفقاً للشاهد، فإنه بعد اندلاع الاحتجاجات في جامعة النيلين، أتت عربة نصف نقل تحمل في جوفها آلات الحادة، توزعها الطلبة في ما بينهم، وهرولوا إلى داخل الحرم الجامعي لضرب الطلبة المتظاهرين، الذين أطلقوا عليهم مصطلح «الشبيحة». وأضاف هناك مجموعة من أفراد الشرطة، يرتدون زياً مدنياً، كانوا يضربون المتظاهرين بالسياط. لكن الضرب بالسياط والهراوات لم يردع جموع الطلبة المحتجين، حيث واصل الموكب الغاضب مسيرته الاحتجاجية ليقترب من وسط الخرطوم، أو ما يعرف بـ«السوق العربي». وهناك تم تفريق المتظاهرين بصورة أعنف درءاً لإمكانية أن يتفاعل معهم المواطنون. وحسب الطالب، الذي اكتفى بالتعريف عن نفسه باسم سعيد، فإن التظاهرات خرجت بشكل عفوي لمناهضة الزيادة في أسعار السلع الاستهلاكية، حيث رفعت شعارات تندد بالغلاء كـ«شعب جوعان لكنه جبان». وأكد أن التظاهرات ستتواصل خلال الأيام المقبلة. ويرى محللون أن على الحكومة الاتعاظ من سياسة القمع، التي اتبعها الحكام العرب، تجاه المتظاهرين. وأن عليها أن تتعامل بلين مع الاحتجاجات المبررة والغبن. لكن وفقاً لحكومة ولاية الخرطوم، فإن التعامل مع الاحتجاجات سيتم بتفهم وليس باللين. كما سيتم التعامل بحسم وحزم مع التخريب. وشدد والي ولاية الخرطوم، عبد الرحمن الخضر، أمس، على هذه النقطة، في مؤتمر صحافي، معمماً تلك التوجيهات لجميع منتسبي الشرطة في ولايته.
واللافت أن الشعب نظم صفوفه بعيداً عن القوى المعارضة، التي لا تزال حتى الآن بعيدة عما يحدث في الشارع. وهو ما وافق عليه القيادي في تجمع أحزاب المعارضة، محمد ضياء الدين، الذي يرى أن الشارع دائماً متقدم على المعارضة بخطوة، لكنه استدرك قائلاً «بوسع المعارضة أن تقود الشارع وتلحق بركب الثورة، وإذا لم تلحق المعارضة بالثورة وتتقدم خطوات فإن الشارع سيتجازوها».
ويبرر ضياء الدين، في حديث مع «الأخبار»، إشعال فئة الطلاب لفتيل التظاهرات، بالإشارة إلى أنهم من الفئات الأكثر حساسية للتطورات السياسية والاقتصادية. وهم يعتبرون رأس الرمح لأي عمل سياسي يستهدف حالة التغيير الرافضة للقضايا التي تتقاطع مع مصالح الشعب. وعاد القيادي المعارض ليؤكد أن الشعب السوداني ضاق ذرعاً من الأزمة المعيشية وانعدام الحريات، والاعتداءات التي تتم بصورة يومية على قطاعات الطلاب. وأضاف «الواقع أصبح غير محتمل، والتغيير أضحى ضرورة حياتية لا بد منها وهي مسألة وقت ليس أكثر، مهما حاولت أجهزة السلطة منع التظاهرات والاحتجاجات، ستكون إرادة الشعب هي المنتصرة». وتوقع ضياء الدين أن تتصاعد حدة الاحتجاجات لتشمل قطاعات نقابية أخرى، حتى على مستوى الأحياء. ويسود اعتقاد واسع لدى قطاعات عريضة من المواطنين بأن التكتيك الذي اتبعته الحكومة في تمرير السياسات الاقتصادية الجديدة فيه الكثير من المكر. إذ إن الحكومة عملت على إعلان عجز ميزانتيها عبر قطاعات الحزب المختلفة، وكررت ذلك عبر أجهزة الإعلام المختلفة. ويفسر المحللون الخطوة بأن الحكومة أرادت كسب تأييد الشارع السوداني في المواجهات الاقتصادية الجديدة. وعلمت «الأخبار» من مصدر مقرب من الحكومة أن أحد النافذين تحدث عن أن المغزى من تقليص الهيكلة الحكومية هو إشعار المواطن بأن الحكومة تقف في صفه وأنها بدأت بشد الحزام أولاً. ومضى المسؤول قائلاً «إن مخصصات التنفيذيين لن تسد العجز في الموازنة التي تعاني شحاً في النقد الأجنبي». ورغم أن الحكومة السودانية أجازت وبصورة موازية للسياسات الاقتصادية مجموعة من التشريعات الخاصة بإعادة هيكلة الدولة وتقليص الدستورين على المستويين الولائي والقومي، إلا أن المراقبين قللوا من خطوة الحكومة تلك، باعتبار أن استحقاقات ما بعد الخدمة للمعفين من الوزراء ووزراء الدولة، ستنهك خزينة الدولة بصورة أكبر مما لو تم الإبقاء عليهم وإعطاؤهم مرتباتهم الشهرية. وحسب مصدر مقرب من جهات اتخاذ القرار، فإن المعفين من الخدمة سيمنحون مرتبات ستة أشهر، بالإضافة الى مكافأة ما بعد الخدمة.
جعفر ...