يصحّ وصف الفيلسوف الفرنسي الإسلامي، روجيه غارودي، الذي رحل هذا الأسبوع، برجل التحولات الفكريّة، بعدما اختبر حياةً طويلة وشاقة انتهت في باريس الأربعاء الماضي عن عمر يناهز 98 عاماً، مخلّفاً وراءه عشرات الكتب التي تناول فيها الشيوعية والاسلام والصهيونية وغيرها من القضايا الفكرية الشائكة. «رجاء»، كما أحب أن يُكنى بعد اعتناقه الإسلام في جنيف عام 1982، لم يكن مجرد رقم على لائحة الانتلجنسيا الفرنسية اليسارية التي لعبت دوراً رائداً على المسرح السياسي الأوروبي منتصف القرن الماضي، متميزة بفرادتها عن الشيوعية وصور تحققها القاسية في الاتحاد السوفياتي والصين.

«رجل حوار الحضارات»، كما لُقّب أيضاً، رفض الرضوخ للإيديولوجيا، معتبراً أن العدالة الاجتماعية التي يؤمن بها قد تتحقق في مناخات أخرى غير الشيوعية، لهذا كان رفاقه في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي يلقبونه بـ«الكاردينال» بسبب ميوله السلطوية وانجذابه للكنيسة.
بيد أن البحث قاده نحو الإسلام ليجد فيه حقيقة أخرى كان يبحث عنها، كما يقول، مع استمرار عدائه قائماً للرأسمالية والصهيونية، مُبدياً الدعم لقضية فلسطين وماداً يد الصداقة للعرب والمسلمين.
الفيلسوف، الذي حلم في سنه العشرين بوحدة الأديان الثلاثة «المسيحية واليهودية والاسلام»، يصف نفسه بأنه «دون كيشوت» يناضل ضد «طواحين الهواء» الرأسمالية. الا أن بداية نشاطه السياسي كانت في العام 1933، حين انضم الى الحزب الشيوعي الفرنسي. وبعد انتهاء فترة اعتقاله لمدة تزيد على السنتين في الجزائر، انضم الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1945، ثم الى المكتب السياسي عام 1956. وبعد طرده من صفوف الحزب نهاية الستينيات بسبب انتقاداته لسياسة الحزب وأدائه بعد ثورة الطلاب في بلاده، أسس في العام 1970 مركز الدراسات والبحوث الماركسية وبقي مديراً له لمدة عشر سنوات.
على المستوى السياسي الرسمي، انتخب كاتب «الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها»، نائباً في الجمعية الوطنية عام 1954 كما أعيد انتخابه (1956-1958) ثم انتخب في مجلس الشيوخ (1959-1962). وفي العام 1981، أشركه المرشح الاشتراكي الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، في حملته الانتخابية، لكن الرجلين ما لبثا ان اختلفا.
أما على المستوى الأكاديمي، فقد حصل صاحب «محاكمة الصهيونية الإسرائيلية» على درجة الدكتوراه الأولى سنة 1953 من جامعة السوربون عن النظرية المادية في المعرفة، ثم حصل على درجة الدكتوراه الثانية عن الحرية عام 54 من موسكو. وتولى تدريس الفلسفة في ألبي (جنوب فرنسا) وفي الجزائر العاصمة وفي باريس (1958-1959).
تحولاته الفكرية بدأت مبكراً، فابن مرسيليا (جنوب فرنسا) الذي وُلد من أم كاثوليكية وأب ملحد، اعتنق البروتستانتية وهو في سن الرابعة عشرة، ثم انتقل إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي. ثم أتت مرحلة اعتناقه الإسلام في العام 1982، لتشكل مرحلة ثالثة من حياته، حيث نال صاحب كتاب «لماذا أسلمت.. نصف قرن من البحث عن الحقيقة»، جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1985 عن كتابيه «ما يعد به الإسلام» و«الإسلام يسكن مستقبلنا».
علاقته بالقضية الفلسطينية وعداؤه للرأسمالية والصهيونية، هما الموقفان اللذان ظلا الثابت الوحيد في خضم تحولاته، وخصوصاً كتابه المثير للجدل «الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية»، الذي شكل مرحلة أخرى من مسيرته المثيرة للجدل.