بدا واضحاً في الأيام الماضية أن إدخال مصطلح الحرب الأهلية على ما يجري في سوريا، يرمي إلى ثلاث نتائج، الأولى تتمثل في القول إن النظام في سوريا لم يعد دولة، بل أصبح طرفاً من أطراف الحرب الأهلية. أما الثانية فتتمثل في التلميح النافر إلى أن ما يجري في سوريا يحدث على أساس خلفية مذهبية، قوامه حرب أهلية بين الغالبية السنية والأقلية العلوية، وهو ما يصور الحدث السوري بنظر الشارع العربي، المطلوب استثارته مذهبياً، على أنه صراع على الهوية المذهبية لهذا البلد، وذلك على حساب هويته العربية.
أما النتيجة الثالثة، فإن الهدف المرتجى تحصيله انطلاقاً من النقطتين الآنفتين، يتمثل بالنفخ في مشروع فتنة تقسيم سوريا على أساس مذهبي، ما يبرر، بنهاية المطاف مشروع الدولة اليهودية. ويجعله يبدو، وكأنه جزء من مشهد عام يسود المنطقة.
داخل القيادة السورية، يوجد وعي متيقظ تجاه هذه الأهداف، ولم يعد خافياً على مراقبي الوضع السوري من الداخل. الرئيس السوري، بشار الأسد، درج، منذ تفاقم الأحداث في بلاده، على تقسيم جهده على مستوى المعالجة السياسية واللوجستية إلى نصفين. الأول: محاولات الحوار المباشر مع مناطق الاعتراض، وتقديم بوادر حسن النية نحوها واحتواء مطالبها عبر تفهمها وإعطاء الوعود العملية بحلها. والجهد الثاني، ضبط شارع القاعدة الشعبية للنظام، ومنع وقوعه في ردات الفعل على ما يوجه ضده، ولا سيما اذا كان العلويون هم المستهدفين. وينطبق هذا الأمر على البعثيين أيضاً. وواقع تشدد الرئيس السوري في هذه النقطة، يأتي تجنباً للوقوع في هدف مذهبة الأحداث السورية وتحويلها إلى حرب استتباع أهلية مذهبية للأزمة العراقية. وهو ما تحول إلى مدعاة لشكوى من مناصريه.
ماذا في الحفة ودمشق؟
أحدث مثال على حرص الأسد والجيش السوري على قطع دابر أخذ الأحداث إلى حرب أهلية مذهبية، تمثل في أحداث الحفة، وهي بلدة قريبة من اللاذقية، يقطنها سوريون من الطائفة السنية، وتحيط بها عدة قرى مقطونة من سوريين علويين. بداية الإشكال هناك حصلت قبل نحو أسبوعين، بين الحفة والقرى المحيطة بها بعد خلاف تقليدي في تلك المنطقة على ملكية مرامل وحقول تنتج حصى للبناء. ولأن النظام في ظروف الأحداث الراهنة، يريد قطع الطريق على مصطادي فرص الفتنة المذهبية بين مكونات الشعب السوري، تم توجيه الجيش لضرب نوع من الحصار على القرى العلوية المحيطة بالحفة، عن طريق نصب حواجز لمنع أهاليها من القيام بأي تجاوز ضد أهالي الحفة. وظل هذا الواقع العسكري مفروضاً لأيام، ليتبين بعدها أن عناصر سلفية في الحفة استغلت ستار الحماية، الذي أقامه الجيش لحمايتها، وامكانية التستر به لتنفيذ عملية بناء تحصينات داخل البلدة وعلى تخومها بمواجهة القرى المحيطة بها. وعندما جاء وفد حكومي كبير ضم وزير الداخلية، محمد إبراهيم الشعار، وهو من أبناء الحفة، ليستعلم عن سبب هذه التحصينات، لم يجد في لقائه أبناء الحفة المطالبين بحصتهم من الرمول والبحص، بل أشخاصاً ملتحين قالوا له إن المشكلة ليست مسألة المرامل، بل نريد تنحي الأسد، ما اضطر الجيش للتعامل مع هذه التحصينات وتفكيكها.
واقعة أخرى أبلغ دلالة. مع بدايات ليل الجمعة ــ السبت الماضي، كانت دمشق تعيش هدوءاً لازمها بنسبة عالية منذ بدء الأحداث، قبل أن تشهد فجأة ومن دون مقدمات، قيام مئات المسلحين (بعض التقديرات تقول ألفين) بغزوها عسكرياً، انطلاقاً من مناطق ريفها المتعددة. وشنّ هؤلاء، في وقت واحد، هجمات على معظم حواجز الجيش السوري المنصوبة عند العديد من مداخلها. وكانت خطة المسلحين تراهن على أنه مهما نجح الجيش في صد أعداد منهم، فإن ذلك لن يحول دون نجاح بعض مجموعاتهم من النفاذ إلى داخل العاصمة والتسلل إلى داخل أحيائها واشاعة الفوضى فيها لأطول مدة ممكنة. وهذا ما حصل بالفعل، ولو إلى حد معين، حيث كانت أحياء في العاصمة خلال تلك الليلة مسرحاً لإطلاق نار، وحرب كرّ وفرّ، استتبعتها عمليات تطهير لها، من قبل قوات حفظ النظام استمرت تداعياتها لغاية يومين تقريباً.
من منظور ديموغرافي، فإن محيط دمشق مأهول بنسيج اجتماعي مختلط. وكان الهدف المضمر لخطة ليلة الجمعة، هو أن يؤدي «غزو» دمشق، من قبل مناطق في ريفها ذات لون مذهبي معين، إلى استفزاز قاطني هذه الأرياف من اللون المذهبي الآخر، وبذلك يصل مشروع الفتنة المذهبية إلى داخل العاصمة، ليصبح هو الخلفية الوحيدة للحدث السوري في الاعلام العالمي.
لكن ما حصل، أن منفذي هذه الخطة من المسلحين، لم يجدوا في مواجهتهم إلّا قوات حفظ النظام التابعة للدولة وللجيش السوري، التي تعاملت معهم ضمن نطاق يؤكد صورة أن «الدولة وحدها هي التي تواجه حركات إرهابية مسلحة خارجة على القانون».
ويجري منذ أيام في العاصمة، تسريب شائعات من نوع أن ما حصل يوم الجمعة كان الفصل الأول من «خطة ساعة الصفر»، وأن الجزء الثاني من هذه الخطة سيحدث ليل الجمعة المقبل. والهدف هو ذاته، استفزاز اللون الطائفي الثاني في العاصمة وريفها، وبث الخوف بين صفوفه كي يتسرع في امتشاق السلاح.
واللافت أن مجريات الوقائع المتصلة بمصطلح «خطة ساعة الصفر» في دمشق، كانت قد شاعت في طرابلس قبل أيام ووصلت إلى كواليس أجهزة أمن لبنانية، حيث أفيد عن أن سلفيي المدينة يشيعون بين أوساطهم أنهم أعدوا خطة للسيطرة على كامل المدينة و«تطهير جبل محسن». وأطلقوا على هذه العملية المزعومة مصطلح «خطة ممحاة»، وبموجبها سيهاجم مئات المسلحين دفعة واحدة وبضربة صاعقة جبل محسن والمدينة من كل المحاور والاتجاهات. ولا يوجد تحليل آخر لأسباب تسريب هذه المعلومة، سوى تسخين الجو المذهبي في المدينة واستفزاز الخصم ليبادر الى الضغط على الزناد.
السلفيون يكررون السيناريو نفسه
والواقع أن استثارة الفتنة المذهبية أمر عمليات يومي، ينفذه طيف واسع من المجموعات المسلحة داخل سوريا، المنقادة من شيوخ مرئيين وغير مرئيين يعيشون في الخارج، وتوجد في تصرفهم فضائيات موجهة لتخصيب منسوب الاحتقان المذهبي في سوريا، وأموال طائلة لعسكرة الحراك المذهبي.
والواقع أنه في كل الأمكنة التي صارت الآن تصنف على أنها ساخنة في سوريا، كرر السلفيون وشيوخهم، الذين تقيم غالبيتهم خارج البلد، نفس خطة العمل التي اتبعوها في دوما الواقعة في ريف دمشق. فهذه الأخيرة، رغم التواجد السلفي، إلا أنها تاريخياً، محسوبة بطابعها العام، على تيارات ناصرية، أبرزها تيار حسن عبد العظيم. وفي بداية الحراك، كان أنصار عبد العظيم من أبنائها يخرجون في تظاهرات سلمية مطالبة بالحرية. وكانت هذه التظاهرات تتعايش مع حماية قوات حفظ الأمن لمسار خط سيرها. لكن خلال إحدى التظاهرات، صدر اطلاق نار مجهول المصدر أدى إلى مقتل أحد المتظاهرين. إثر ذلك، برز بين الجمع شباب ملتحون، قاموا بتحريض الأهالي المحتشدين حول جثة القتيل، لتغيير سير التظاهرة المعتاد والهجوم على مركز للأمن عند طرف البلدة. ومنذ تلك الواقعة، اختفى الناصريون والحراك السلمي من دوما. وانتشر السلفيون المسلحون في مجموعات داخل احيائها، ويظهر الكثير من عناصرها ملثمين. ثم أنشأوا محكمة شرعية في دوما.
أحد أبناء البلدة، الخبير في الشؤون السلفية، يقول: «السلفيون لديهم خطة واحدة طبقوها حيثما استطاعوا في سوريا، وهي تتدرج وفق المراحل التالية: في البداية، لا يظهر السلفيون في مشهد الحراك، ثم يقومون بافتعال حادثة قتل في أحد التظاهرات، بقصد توريط أهالي المحلة أو البلدة في صراع دم مع النظام. على الأثر، يطرحون أنفسهم بأنهم الوحيدون القادرون على حماية أهالي البلدة أو المحلة، وفي مقابل الحماية يطلبون من الأهالي الولاء الكامل لهم ولعقيدتهم و«اعلان البراء» من النظام (تطبيقات نظرية الولاء والبراء الوهابية السلفية الجهادية)».
لماذا الآن؟ بدا لافتاً توقيت تصريح لادسو، عن أن سوريا تشهد حرباً أهلية. وسبب توقيت إعلانه ليس خافياً، فهو يتقصد، من موقعه في الأمم المتحدة وصلته ببعثة مراقبيها في سوريا، أن يقدم للمؤتمر الدولي المطروح عقده حول الأزمة السورية، توصيفه الاطار القانوني والسياسي، الذي يجب أن يتم وضع الموضوع السوري فيه خلال بحث المؤتمر له. أي توصيف الحرب ألاهلية على أساس مذهبي وديني وليس على أساس أنه ارهاب أو حتى حراك مسلح ضد الدولة والنظام. وهذا التوصيف غايته الأساس إسقاط الدولة السورية القائمة من الناحية القانونية والشرعية الدولية.
والغاية الأبعد لهذا التصريح، هي التأسيس لوضع خيار مشروع النظر في تقسيم سوريا، على طاولة النقاش الدولي في المؤتمر. وما هو غير شائع في أسرار الحدث السوري، أن عسكرة حراكه، كانت منذ البداية هدفاً دولياً وإقليمياً وهدفاً صميمياً داخل التوجه الاستراتيجي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
لقد صاغ الغرب منذ الأسابيع الأولى للأحداث السورية مقولة داخل كواليس مشاوراته الدبلوماسية، تفيد بأن حمل المعارضة السورية للسلاح ليس انحرافاً من قبلهم عن السلمية، بل نوع من ممارسة حق الدفاع عن النفس المشروع، وفق القانون الدولي. وطرح هذه المقولة في ذاك الوقت المبكر، وفي مرحلة لم تكن قد ظهرت خلالها حالة العنف، لم يكن له تفسير سوى تحريض الحراك السوري على سلوك الطريق السريعة نحو الحرب الأهلية. أما التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، فإنه منذ الأيام الأولى للحراك، سادت داخل محافله الضيقة الدعوة إلى عسكرة الحراك في سوريا، انطلاقاً من فكرة أساسية تقول إن العسكرة ستؤدي إلى استنفار عصب الغالبية الديموغرافية السنية بمواجهة الأقلية العلوية. وهذا تفوّق استراتيجي لا بد من استخدامه في معركة إسقاط النظام، ولا بد من طرحه، كاستثمار مربح، على دول الخليج العربي، بوصفه مكسباً يعوضهم خسارة السنة في العراق. ولا بد أيضاً من تقديمه للغرب بوصفه انتفاضة سنية في المشرق العربي لطرد إيران منه، عبر طرد حليفها الأسد من الحكم. وضمن هذا السياق، كان ولا يزال مقصوداً، إظهار صورة حزب الله في خلفية الحدث السوري، للإشارة الى ارتباط هذه المعركة بقضية الغرب في صراعه مع إيران.
الجميع شركاء
واذا كانت المساعدات العسكرية الفرنسية والبريطانية للمعارضة السورية، وتأييدهما المعلن لعسكرة حراكها، هو أمر لم يعد بحاجة لإثبات، فان الوقائع تؤكد أن واشنطن، هي أيضاً، وعلى عكس تصريحات مسؤولي الإدارة والخارجية، تسهم بأشكال مختلفة في تشجيع عسكرة الأزمة السورية.
والواقع أن قرار عسكرة الحراك السوري، كان منذ البداية هدف الأهداف لمجموعة أصدقاء الشعب السوري، وبمثابة خطة دولية لإسباغ صفة الحرب الأهلية على الوضع في هذا البلد، كوصفة لإسقاط الدولة السورية، ووضع المشرق في أتون حرب مذهبية، تستدرج فكرة تقسيم كياناته الوطنية على أساس مذهبي.



شهادات التورط الأميركي

توجد شهادات من غير جهة حقوقية عالمية مستقلة، وبعضها تابع للأمم المتحدة، تؤكد انخراط خبراء أميركيين تابعين للاستخبارات الأميركية في عمليات تنسيق وإدارة عمليات مجموعات عسكرية سورية معارضة داخل سوريا. من هذه الشهادات ما قاله، قبل اكثر من شهرين، في محادثة مع دبلوماسي عربي، رئيس لجنة التحقيق الدولية الخاصة بحقوق الانسان في سوريا، باولو بنييرو، عن أنه توجد معلومات، وصفها بالمقلقة، لدى لجنته تفيد بـ«أن للولايات المتحدة الاميركية ولفرنسا وبريطانيا، أناساً يعملون داخل سوريا لدعم المعارضة». ويتحدث بنييرو، عن جولة قام بها في واشنطن، للقاء عدد من مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية، حيث اكتشف أن رموزاً من المعارضة السورية المنادين بالعسكرة يداومون في معهد «بروكينغز» بتوصية من الخارجية، وأن هؤلاء صبوا جام غضبهم عليه حينما التقاهم لأن تقرير لجنته، حينها، دعا إلى الحد من عسكرة الحراك السوري.