تونس | فيما يواصل «القصر الرئاسي» والحكومة معركتهما غير المعلنة، بدأت الأمور في تونس تتجّه نحو مزيد من التعقيد الأمني، بعدما تحوّلت الأحياء الشعبية في العاصمة إلى «حرب شوارع» بين الأمن التونسي والسلفيين الذين خرجوا لنصرة «الإسلام ضد أعداء الله الكافرين»، حسب ما قال كريم، أحد الشباب السلفيين الذين التقتهم «الأخبار» قرب قصر العبدلية، حيث نُظّم معرض تشكيلي للوحات والمنحوتات الفنية في تظاهرة فنية سنوية تحمل اسم «ربيع الفنون». اللوحات الفنية التي عرضت حملت إيحاءات دينية، كانت كافية لاستفزاز السلفيين الذين توعدوا بـ«الانتقام» من «مشوّهي اسم الجلالة والرسول صلى الله عليه وسلم».
إذاً، بدأت القصة من قصر العبدلية حيث المعرض الفني الذي كان لافتاً هذا العام بتناوله لظاهرة العنف الديني، ما جعله محور النقاش السياسي الذي تعدّاه ليكون محور خلاف خفي بين أعوان الأمن ورأس الوزارة والحكومة التي ترى أن الحوار أنجع مع السلفيين. لكن هذه السياسة «المتخاذلة» لم تتمكن من لجم الهجمات السلفية التي انتقلت في فترة وجيزة من الكلام والتحذير والتهديد إلى المرور نحو الفعل، والهجوم على مصالح المواطنين، وحتى على المراكز الأمنية التي كانت أولى «ضحايا» الغضب السلفي. وسرعان ما توسّع مجال غضبهم، أول من أمس، من شمال العاصمة إلى أقصى غربها، حيث تتمركز أكبر الأحياء الشعبية في الجمهورية التونسية. وتواصل التراشق بين الفريقين، ظهر أمس، في شارع الحبيب بورقيبة، وسط العاصمة.
وتفشّت العدوى في بعض المناطق خارج العاصمة، حيث جرى إحراق مقر الاتحاد العام التونسي للشغل في «جندوبة»، التي كانت قبل أكثر من أسبوع مسرحاً لأول هجوم سلفي مسلح تشهده تونس. وأدى هذا «الغضب السلفي» إلى حرق المحكمة الابتدائية في «سيدي السيجومي»، إضافة إلى تخريب مقار أمنية أخرى في حي التضامن، ومحاولات اقتحام لمقار أخرى في ذات المنطقة.
وفي أول خطوة عملية، تصدى الأمن التونسي للهجمات السلفية باستخدام القنابل المسيّلة للدموع، والذخيرة الحية للتخويف، ما أدى إلى هجوم معاكس من قبل السلفيين بقنابل المولوتوف، وحرق الإطارات. وقال محمد، أحد ضباط الحرس الوطني الموجودين في منطقة «قصر السعيد»، لـ«الأخبار»: «إذا كانوا يريدون الجهاد فليتوجهوا إلى فلسطين، أم ان الجهاد يكمن في ذبح الفنانين التونسيين».
وتأتي هذه «الهجمة السلفية» بعدما دعا زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، صباح أول من أمس، التونسيين إلى التمرد على حركة «النهضة الإسلامية» بعد رفضها إدخال الشريعة الإسلامية في طريقة حكم البلاد. وقال الظواهري، في تسجيل صوتي كان محطّ اهتمام كبير من الوسائل الإعلامية التونسية، إنّ «النهضة خدعت نفسها وخدعت الدين». وأردف «إنهم يبتكرون إسلاماً ترضى عنه وزارة الخارجية الأميركية والاتحاد الأوروبي ومشيخات الخليج»، مضيفاً «إسلام حسب الطلب يبيح نوادي القمار، وشواطئ العراة، وبنوك الربا، والقوانين العلمانية، والخضوع للشرعية الدولية». وحرّض الظواهري التونسيين على التمرد قائلاً «دافعوا عن سنّة نبيكم ولا ترضوا بغير الشريعة بديلاً».
هذا التسجيل الذي كان حاضراً بكثرة في مقالات السلفيين، استخدمه هؤلاء للاستشهاد به في أحداث البارحة في شوارع العاصمة، حيث سُمع متظاهرون يقولون «الشيخ يقول دافعوا عن الشريعة، النهضة لا تحكم بشرع الله، يجب التخلص من الكفر».
ورغم هذا العنف الهمجي وغير الاعتيادي الذي تشهده العاصمة، أفادت وزارة الداخلية التونسية، يوم أمس، بأن الشرطة اعتقلت 160 شخصاً، بينهم عشرات السلفيين، وأشارت الوزارة إلى مقتل 7 جنود بهجمات السلفيين، فيما أشار وزير الداخلية، علي العريض، إلى أن هذه الهجمات تأتي بعد مفاوضات مع السلفيين في محاولة لامتصاص الغضب، وأن القانون سيأخذ مجراه في ما يتعلق بالذين أساؤوا إلى المقدسات. من ناحيته، أشار «اتحاد الفنانين التشكيليين» التونسيين إلى ضرورة الإشارة إلى حرية التعبير في الدستور الجديد، وأن «سقوط هذا المبدأ» يُعتبر إسقاطاً لمفهوم المواطنة.
أحدث هذا الزخم خضّة في الرأي العام التونسي، إذ رأى بعضهم أنه لا يحق للسلفيين التعبير عن غضبهم بهذا الشكل، فيما لفت آخرون إلى ضرورة حماية الحقّ في التعبير والرأي.
في هذا السياق، شدّد الفنان التشكيلي حمدي المزهودي على ضرورة حماية حق التعبير. وأشار إلى أن القراءات الفنية تتعدد في ما يخصّ اللوحات التي عرضت في العبدلية، وأن لكل فنان نظرة فنية للعمل الذي يقوم به. وحذّر المزهودي من أن يكون الفن مطية للعنف والتشرذم الاجتماعي الذي قد يحطّم تماسك البنية الأساسية للمجتمع التونسي. رؤية الفنان الحذرة للوضع اختلفت عن طرح زميله الشاب، وسيم، الذي يشير إلى أن الفن يتعدى المفهوم الضيّق للمقدس، «فأن ترسم لا يعتبر ذلك مسّاً بأحد، إلا إذا كان الآخر يتوجس من شيء تجاه الفن كممارسة».
هذه القراءات «الفلسفية» من الفنانين لم تكن قريبة من القراءة التي طرحها الطالب بكلية الحقوق، محمد علي، الذي رأى أن «لكلّ شيء حدوداً، ولذلك وجب تحديد تلك الحدود باستصدار قوانين ردعية». ويضيف أن «ما تعيشه تونس يأتي في توقيت لمّا يكتب فيه دستور يكون مظلة للقوانين الوضعية الأخرى بصفة عامة». وهو ما طالبت به كتلة «حركة النهضة» الإسلامية، يوم أمس، إذ دعت إلى تضمين دستور تونس الجديد بنداً «يجرّم الاعتداء على المقدسات الدينية».
وبعيداً عن الآراء المذكورة التي ترى أن الوضع مأساوي، هناك رأي آخر. رأي يغرّد خارج السرب، ويبتعد عن لعبة التهويل والتخويف. يشير هذا الرأي إلى أن ما يحدث في تونس هو عبارة عن مؤامرة سياسية تدلّ على بداية «لعبة استقطاب جديدة» بين الأقطاب السياسية الموجودة على الساحة السياسية.



السلفيّون للمرزوقي: إما معنا أو ضدنا


وجهت قيادات السلفية الجهادية وحزب التحرير في تونس، يوم أمس، رسائل متعددة إلى رئيس الدولة المؤقت المنصف المرزوقي (الصورة)، وكذلك إلى الحكومة، داعين إياهما إلى العودة للصواب، وذلك في شريط صوتي جرى تداوله عبر فايسبوك.
وفي لغة تشبه لغة زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، هاجم القيادي السلفي أبو أيوب التونسي، المرزوقي ووصفه بالمرتد و«المنقلب على عقبيه»، إذا لم يتصرف حيال صوَر «قصر العبدلية»، مضيفاً أن المرزوقي، إما أن يكون معنا أو معهم (أي الفنانين). أبو أيوب، الذي اشتهر اسمه بعد ثورة «14 جانفي»، أكد أن «على الحكومة التي تدّعي أنها إسلامية، التصدي لهذا الاستهزاء بالمقدسات». وأضاف «إذا كانت دساتيركم ومؤسساتكم ودولكم تبيح الطعن في ربنا وديننا ونبيّنا، فنحن نكفر بدساتيركم وبدولكم ومدنيّتكم». من جهته، نقل موقع «الصباح نيوز» عن الناطق الرسمي باسم حزب التحرير في تونس، رضا بلحاج، أن الاحتجاجات الأخيرة التي تشهدها البلاد هي نتيجة استفزازات التيارين الليبرالي والعلماني للشقّ السلفي في تونس. وقال إن هذه الاحتجاجات تمثّل رسالة إلى الحكومة المتواطئة في التجاوزات.