كانت الساعة قد لامست العاشرة مساءً من يوم الأحد الماضي عندما دق جرس الهاتف إيذاناً بمكالمة مثّلت الكلمة الفصل في جولة الصراع الأخيرة على السلطة في العراق. المتصل: جلال الطالباني. المتلقّي: نوري المالكي. الموضوع: الرئيس يبلغ رئيس الوزراء أنه لم يوقّع ولن يوقّع على طلب إلى رئاسة البرلمان لعقد جلسة من أجل حجب الثقة عن الحكومة، مكرراً موقفاً كان قد أعلنه قبل فترة يفيد بأنه يفضّل الاستقالة على حجب الثقة عن الحكومة، لأن خطوة كهذه ستدخل البلاد في المجهول، مشيراً إلى أن البديل عقد حوار يجمع الأطراف كلها برعايته.

مضى ليل الأحد ـــ الاثنين ثقيلاً على المجتمعين في أربيل، حيث تجمعت قيادات عراقية من الصف الأول ومعها عشرات النواب الذين سعوا إلى جمع ١٦٤ توقيعاً برلمانياً لإسقاط المالكي. ومع إطلالة شمس النهار، لم يجد السيد مقتدى الصدر مفرّاً من مغادرة عاصمة كردستان إلى إيران، قبل أن يتبعه بساعات رئيس وزراء الإقليم نيجيرفان البرزاني من أجل البحث مع المسؤولين الإيرانيين عن آلية للحل من خارج أطروحة إقالة المالكي عبر إسقاط الحكومة.
هي المدينة نفسها التي منها انطلقت الجولة الأخيرة، والأكثر شراسة، من معركة إطاحة المالكي، قبل نحو ٤٠ يوماً، وتحديداً الخميس ٢٦ نيسان الماضي. وقتها حطّ الصدر في مطار أربيل فجأة، وحلّ ضيفاً على رئيس الإقليم مسعود البرزاني لأيام تخللها عقد ما عرف في وقت لاحق باجتماع أربيل الخماسي.
قبلها بنحو ثلاثة أيام (الاثنين ٢٣ نيسان) كان الصدر قد التقى المالكي في خلال زيارة الأخير لطهران. لم يكن اللقاء ودّياً. بدا واضحاً أن زعيم التيار الصدري كان يحاول ابتزاز رئيس الحكومة. قدّم له لائحة طويلة من الأسماء التي يريد تخصيصها بمناصب من مختلف المراتب. طالب بوزارة الداخلية. أبلغ الصدر المالكي أنه تلقّى دعوة لزيارة أربيل. نصحه الجميع بألا يذهب، فوافق. لكنه سرعان ما نكث بوعده. سئل لماذا هذا التغيير في الموقف. كان جوابه تطمينياً، قائلاً إنه يريد تسوية المشكلة المندلعة بين المالكي والبرزاني، متعهّداً بالحفاظ على ولائه للأول.
مع انتصاف يوم الخميس، توجه إلى مطار الإمام الخميني، حيث كانت طائرة عراقية بانتظاره. ركبها، مع أبرز مساعديه، يتقدمهم السيد مصطفى اليعقوبي. وما إن حطّت في أربيل حتى أعلن أنه يحمل مبادرة من 18 بنداً (نصها على الموقع الإلكتروني للأخبار)، قبل أن يعقد اجتماعاًَ، ضمه إلى الطالباني والبرزاني وأسامة النجيفي وإياد علاوي، انتهى (٢٨/٤/ ٢٠١٢) إلى وثيقة من سبعة بنود (نصّها على الموقع الإلكتروني للأخبار)، رفض رئيس الجمهورية التوقيع عليها على قاعدة أنه يرى نفسه راعياً للاجتماع وفوق الصراعات السياسية. وثيقة تمهل المالكي ١٥ يوماً لتنفيذ سلسلة من المطالب، هي نفسها مطالب التحالف الكردستاني والكتلة العراقية، وإلا سيعمدون إلى حجب الثقة عن الحكومة في البرلمان.
مصادر متقاطعة في بغداد وطهران تقول «تكشّف سريعاً لنا أن الصدر انقلب على جميع تفاهماته وتحالفاته وانخرط في مؤامرة جماعة أربيل»، في خطوة يعتقد البعض أنه أراد من خلالها توريط المجلس الأعلى في لعبة ضد المالكي، على غرار ما فعل أيام تأليف الحكومة، يحصد هو مكاسبها عبر ابتزاز رئيس الوزراء. لكنه هذه المرة لم يفلح.
وانضمام الصدر إلى هذه المجموعة ليس بالأمر التفصيلي، فهو يمنحها غطاءً شيعياً تفتقده، وكمية من أصوات النواب (40 صوتاً) تحتاج إليها لتأمين الغالبية المطلوبة لإسقاط الحكومة. اللافت في ما جرى أن «المجلس الأعلى» لم تنطل عليه الخدعة هذه المرة، الأمر الذي أثار استغراب البرزاني الذي اتصل أكثر من مرّة بالسيد عمار الحكيم مستفسراً، على قاعدة أن الأخير لطالما كان رأس الحربة في جبهة إسقاط المالكي، فكيف لا ينضم إلى الجهود الأخيرة الرامية إلى تحقيق هذه الغاية؟
الأنكى، والأخطر بحسب مصادر رفيعة المستوى، أن الصدر كلف مساعده الأيمن، السيد اليعقوبي نفسه، بنقل وثيقة البنود السبعة إلى رئيس التحالف الوطني الذي ينتمي إليه المالكي، إبراهيم الجعفري. خطوة أجمع المعنيون على اعتبارها تطوراً نوعياً في الأزمة العراقية المستمرة منذ انتخابات عام ٢٠١٠. قبلها، كان الصراع بين التحالف الكردستاني (الكردي) ومعه الكتلة العراقية (السنية) من جهة وبين التحالف الوطني العراقي (الشيعي) من جهة أخرى. مع انضمام الصدر إلى تكتل أربيل، وإيفاده اليعقوبي إلى بغداد، يكون الصدر قد نقل الصراع إلى داخل التحالف الوطني وجعله شيعياً ـــ شيعياً. وضع أضاء الضوء الأحمر في طهران.
وليزيد الطين بلّة، كان مسؤول إيراني رفيع المستوى يقوم، في هذه الأثناء، بزيارة سرّية لأنقرة، حيث أبلغه وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو أن السلطات التركية متوافقة مع مجموعة أربيل على تغيير نوري المالكي، في خطوة قرأتها الجمهورية الإسلامية على أنها مؤامرة سعودية قطرية تركية تستهدف ليس فقط العراق، بل دعم بغداد لنظام الرئيس بشار الأسد، ما زادها تمسكاً برئيس الحكومة العراقية الذي رأت في إسقاطه في هذا الظرف وبهذه الطريقة دفعاً للبلاد نحو المجهول. من هنا، كانت وجهة نظرها أن للجميع حقوقاً ومطالب يجب العمل على تلبيتها، ولكن ليس بهذه الطريقة.
ردّ الفعل الأوّلي للتحالف على ما حمله اليعقوبي كان طبعاً التمسك بالمالكي على رأس الحكومة، قبل أن يعتبر مع انتهاء المدة أن ورقة أربيل جديرة بالدراسة مثلها مثل أي ورقة أخرى. المفاجأة خلال هذه الفترة كانت في السرعة التي جرى في خلالها التلاقي بين المالكي والمجلس الأعلى، حيث كانت المصالحة المنتظرة منذ أشهر طويلة مع السيد عمّار الحكيم الذي يؤكد المقرّبون من رئيس الحكومة أن الأخير يكنّ له «كل الاحترام والإعجاب».
يقول المقرّبون من الصدر إن حال الغضب العارم الذي انهال عليه من كل حدب وصوب، سواء من إيران أو من مراجع النجف وحتى القواعد الشعبية التي وجدت في حراكه خيانة ومحاباة للأكراد والسنّة على حساب أبناء مذهبه، جعلته يشعر بأنه ارتكب خطأً فادحاً لا بد من إصلاحه سريعاً. خطأ بدا أنه يسعى جاهداً للتراجع عنه. وجد أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم. فما كادت مهلة الـ١٥ يوماً تنتهي، حتى دعا أطراف اجتماع أربيل الخماسي إلى عقد لقاء جديد، ولكن هذه المرة في النجف (١٩ أيار).
كانت خيبة أمل الصدر واضحة في هذا الاجتماع الذي حاول الطالباني التأثير بمجرياته عبر إعلان مبادرة النقاط الثماني (نصّها على الموقع الإلكتروني للأخبار) الخاصة به عشية انعقاده (18 أيار). وأسباب هذه الخيبة اثنان: الأول، أن الحضور في النجف كان على مستوى الصف الثاني، وليس الصف الأول على ما كان يأمل. وثانياً، لأنه وجد في المجتمعين تساهلاً، جرى التعبير عنه بمداخلة لوزير الخارجية هوشيار زيباري الذي طالب بعدم الاستعجال وإعطاء المالكي مهلة قد تمتد لثلاثة أشهر لتحقيق المطالب، قبل المبادرة إلى إجراءات حجب الثقة.
كانت ورقة معدّة سلفاً (نصّها على الموقع الإلكتروني للأخبار) قد وزعت على الحضور مع بدء الاجتماع، تتضمن بندين: الأول يقول إن المجتمعين يسلّمون سلفاً بأحقيّة التحالف الوطني برئاسة الحكومة، بمعنى أن تسمية الشخصية التي ستتولى هذا المنصب حكر على التحالف وحده. أما الثاني، فينص على أن على رئيس التحالف أن يبادر إلى عقد مشاورات داخله لاختيار شخصية غير المالكي لتولّي المنصب.
عندما وجد الصدر أن الجو في الاجتماع ينحو في هذا الاتجاه، سحب تلك الورقة وكتب عليها بخط يده أن على التحالف أن يقوم بهذا الأمر خلال سبعة أيام.
مع انتهاء هذه المهلة في ٢٧ أيار الماضي، بادر الحكيم إلى عقد اجتماع مع الصدر على أمل تقريب وجهات النظر، لكن اتضح أنه كان بلا جدوى. عاودت مجموعة أربيل اجتماعاتها، مرة بضيافة البرزاني (٢٩ أيار) بغياب الطالباني، ومرة بضيافة الطالباني في السليمانية في ٣٠ منه بحضور إياد علاوي وأسامة النجيفي وصالح المطلك إلى جانب الصدر والبرزاني. غاية الاجتماعين كانت الضغط على الطالباني للطلب من النجيفي رسمياً عقد جلسة للبرلمان من أجل حجب الثقة عن الحكومة. لغة الطالباني بقيت على الدوام نفسها: أنا ملتزم بما يمليه عليّ الدستور. والترجمة العملية لهذه العبارة كانت الطلب إلى الكتل الراغبة في عقد جلسة كهذه جمع ١٦٤ توقيعاً نيابياً مطلوباً لإسقاط المالكي.
وهكذا حصل. تحول فندق روتانا في أربيل إلى خليّة نحل، في ظل حرب إعلامية غير مسبوقة. المالكي والجعفري والحكيم يعلنون السبت استعدادهم للعمل على تجاوز الأزمة بعد دراسة ورقتي أربيل والنجف. الصدر يؤكد التزامه بإسقاط المالكي إذا أمّن حلفاؤه العدد المطلوب منهم، أي 124 صوتاً. إعلان عن جمع ١٨٢ وشائعات صدرية أن الطالباني وقّع على دعوة البرلمان. إعلان من القصر الجمهوري يفيد بأن الرئيس أمر بالتحقق ممّا إذا كانت التواقيع صحيحة. سرعان ما يتبيّن أن ٣٢ منها مزوّرة، ومجموعة أخرى، صحيح أن أصحابها وقّعوا العريضة، لكنهم سرعان ما سحبوا هذا التوقيع، فكان اتصال العاشرة ليلاً من المالكي الأحد ومعه قرار التحالف الكردستاني إرسال وفد برئاسة نجيرفان البرزاني إلى إيران لبحث سبل حل المشكلة، في ظل مبادرة مطروحة على الطاولة، تقضي بعقد جولة مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف برعاية جهة إقليمية حيادية ونزيهة تضمن تنفيذ الاتفاقات والتفاهمات التي يُتوصّل إليها شرط ألا تتعارض مع أحكام الدستور العراقي.
أما الصدر الذي عاد أول من أمس إلى طهران يجر خلفه ذيل الخيبة بعدما أحرج الجميع بمهلة الأيام السبعة، فيبدو أن أياماً صعبة تنتظره في الجمهورية الإسلامية، حيث تحدثت شائعات عن أنه جرى إغلاق مكتبه في طهران التي يبدو أن غضبها منه قد بلغ مستويات غير مسبوقة، وخصوصاًَ أن الصدر قد «لعب في الصحن» أكثر من مرة، إحداها في خلال جولة خليجية حيث بلغ السلطات الإيرانية أنه حرّض ضدها في قطر والسعودية.
في المقابل، ورغم أن استطلاعات رأي أميركية المصدر (المعهد الديموقراطي الوطني الأميركي للشؤون الدولية) تؤكد زيادة شعبية المالكي خلال هذه الفترة، حتى في المناطق السنيّة على حساب النجيفي الذي بدأ يخسر قواعده، خاصة بعد عقده اجتماعين لحكومته في كركوك والموصل ما جذب إليه العصبية العربية المعادية لتكريد المنطقة، إلا أن نوري المالكي لا شك في أنه خرج من هذه المعركة متصدعاً، وبحاجة إلى فترة من أجل لملمة تحالفاته وسلطته.
أما نائبه صالح المطلك، فقد بدا واضحاً أنه أحرق الكثير من أوراقه خلال هذه الفترة من خلال حال التذبذب التي عاشها، خاصة بعدما عوّل على حركة الأكراد ولم يصغ إلى النصائح التي قدمت إليه، والتي أكدت له أن ما يجري ليس سوى زوبعة في فنجان، هو الذي كان على قاب قوسين أو أدنى من إصلاح وضعه مع المالكي.
واستطراداً، بدا من خلال تطورات الأسابيع الماضية أن الأواصر التي تجمع القائمة العراقية رخوة، ولا تستند إلى أرضية صلبة، وأنها عبارة عن مجموعات غير متجانسة لجهة الرؤى السياسية ولا يجمعها سوى المصلحة، بدليل التجاء الكثير من أعضائها، في الأوقات الحاسمة، إلى المالكي.
يبقى المجلس الأعلى الذي يبدو الرابح الأكبر، هو الذي حسم خياره في اعتبار أن المالكي، رغم أنه «خصم، إلا أنه سياسي عاقل يمكن مشاركته في مشروع سياسي». بل أكثر من ذلك، اقتنع بأن الطريق نحو الإصلاح لا تمر عبر إقالة الحكومة وإسقاط رئيسها، على قاعدة أن أي رئيس من بعده سيكون ضعيفاً وعرضة للابتزاز. ولذلك، فإن الحل عبر اعتماد الآليات الدبلوماسية والحوار بين كل المكوّنات.



بنود لقاء النجف

في ما يأتي نص الورقة التي صدرت عن اجتماع النجف الذي عقد في 19 ايار الماضي:
«اطلعنا على الرسالة التي وصلتنا بتوقيع السيد الدكتور إبراهيم الجعفري، باعتبارها رداً على اللقاء التشاوري في 28 – 4- 2012 (في أربيل) ولم نجد في الرسالة ما يمثل جواباً عما جرى التأكيد عليه من مطالب واضحة، تتعلق بتطبيق الاتفاقيات والتفاهمات التي سبق إبرامها. وانطلاقاً من الأسس التي حددت تصوراتنا في اللقاء المذكور (في أربيل) نتوجه إليكم باعتباركم الإطار السياسي المعني باختيار رئيس الوزراء، للبحث عن بديل له يستطيع تفكيك الأزمات المتلاحقة التي تدفع البلاد إلى مجابهة مخاطر جدية تلحق أفدح الأضرار بالمصالح الوطنية العليا، وتؤدي في المحصلة النهائية الى إضعاف الصف الوطني، وإعاقة مشروعنا المشترك. إن أي بديل يؤدي إلى معالجة الأزمة ومعافاة الحياة السياسية وإيقاف التدهور في العمل الوطني، ينبغي أن يتركز على وضع حد للنهج والسياسة الانفرادية في إدارة الحكم والدولة».