القاهرة | «نوح راح لحاله والطوفان استمر/ مركبنا تايهة لسه مش لاقيه بر/ آه م الطوفان وآهين يا بر الأمان/ إزاي تبان والدنيا غرقانة شر ...عجبي !!». برباعيات صلاح جاهين استقبل المصريون «محاكمة القرن»، التي طالما وعدهم المجلس العسكري بأنها ستحل كافة مشاكلهم. فالمحكمة كان يفترض أن يجد فيها أهالي الشهداء مطلبهم بالقصاص، وأن يستمتع بعدها باقي الشعب بأموال فرعون «مبارك» وأبنائه جمال وعلاء «وهامان» وزير الداخلية حبيب العادلي، و«جنوده» مساعديه الستة. ولكن بعد انتظار قرابة عام، استيقظ المصريون على الحقيقة المرة: الثورة لم تسقط النظام. نظام مبارك ما زال يعبث بالقضاء والداخلية.
فبعد فساد ثلاثين عاماً، أقرّت المحكمة بأن مبارك وأعوانه لم يسرقوا ولم يقتلوا. وقضت ببراءة مبارك وأبنائه وصديقه حسين سالم من تهم الاستيلاء على المال العام واستغلال النفوذ، في إهدار ثروات البلاد وتصدير الغاز إلى إسرائيل.
في المقابل، عاقبت مبارك وذراعه اليمنى حبيب العادلي بالسجن المؤبد «25 عاماً»، ليس بسبب إصدار أوامر بقتل المتظاهرين، بل بسبب امتناعه عن إصدار أوامر بوقف قتل المتظاهرين أثناء ثورة «25 يناير». واللافت أن حكم محكمة الجنايات، الذي أصدره القاضي الأشهر في مصر عقب الثورة، أحمد رفعت، أكد مفارقات عديدة، أبرزها تأكيد المحكمة وجود «طرف ثالث» قتل المتظاهرين لا يعلم عنه أحد شيئاً، لا المجلس العسكري الحاكم للبلاد، ولا حتى جهات التحقيق والقضاء. فأقرّت المحكمة أنه لم يثبت لديها أن شهداء ثورة «25 يناير» الذين قدّرت إحصاءات وزارة الصحة عددهم بـ850 شهيداً قد قتلوا نتاج أسلحة وزارة الداخلية. ورغم أن المحكمة قضت بالسجن المؤبد على كل من مبارك والعادلي في قضية قتل المتظاهرين، برّأت جميع قيادات وزارة الداخلية من تهمة قتل المتظاهرين، مبررةً الأمر بأنه «لم يتم ضبط أي من الفاعلين الأصليين مرتكبي جرائم القتل العمد والشروع فيه أثناء أحداث يناير 2011 أو حتى بعدها أو حتى الآن». كذلك أشار قرار المحكمة إلى أنه «لا يوجد قطع أو يقين في اتهام قيادات وزارة الداخلية، فخلت أوراق الدعوى وما قدم فيها من مضبوطات وتسجيلات صوتية وأدلة مادية من ذخائر يمكن إسنادها إليهم».
هكذا جاء حكم محكمة جنايات القاهرة في قضيتي قتل المتظاهرين والاستيلاء على المال العام صادماً لجميع فئات المجتمع المصري وأطيافه، بالرغم من الديباجة الإنشائية التي استهل بها رئيس المحكمة المستشار أحمد رفعت حكمه، والتي وصف فيها ثورة «25 يناير» بالفجر الجديد، مؤكداً أنه «خرج أبناء الوطن السلميون من كل فج عميق والكل يكابد ظلماً وذلاً ويحمل على كاهله معاناة، متجهين صوب ميدان التحرير بالقاهرة، عاصمة مصر، مسالمين مطالبين فقط عدالة حرية ديموقراطية، في وجه من أحكموا قبضتهم عليهم، وارتكبوا عظائم الإثم والفساد».
وفوجئ المصريون بالقاضي الذي نطق بلسانهم يبرّئ مبارك من ثلاث تهم من إجمالي أربع تهم وجهتها إليه النيابة العامة. فقضت المحكمة ببراءة كل من محمد حسني مبارك، وحسين سالم، وعلاء مبارك، وجمال مبارك، في جنايتي استعمال النفوذ وتقديم عطية، وهي التهمة الخاصة بقبول مبارك 5 فيلات من حسين سالم. كذلك تم الحكم ببراءة مبارك من جناية الاشتراك مع موظف عمومي للحصول لغيره دون وجه حق على منفعة من وظيفته، وجناية الاشتراك مع موظف عمومي في الإضرار بمصالح الجهة التي يعمل معها. وهي التهم المرتبطة بقضية تصدير الغاز إلى إسرائيل والإضرار العمدي بالمال العام واتفاق مبارك مع وزير البترول سامح فهمي على إسناد أمر بيع الغاز الطبيعي المصري وتصديره إلى دولة إسرائيل، إلى شركة شرق البحر الأحمر المتوسط للغاز، التي يمثّلها ويستحوذ على أغلبية أسهمها صديق مبارك حسين سالم، بقصد تربيحه بغير حق.
ورأى الخبير في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، عمرو الشوبكي، أن المحكمة برّأت مبارك من جميع التهم المنسوبة إليه، موضحاً أن القاضي أسّس حكمه على أمر غير مسبوق في أحكام القضاء المصري، وهو «المشاركة في الجريمة بالامتناع عن إيقافها». ورأى أن مبارك من موقعه كرئيس للجمهورية، والعادلي من موقعه كوزير للداخلية، كان بإمكانهما وقف جريمة قتل المتظاهرين. وهو ما لم يقوما به، نافياً وجود أي دليل يثبت إعطاء مبارك لأوامر بقتل المتظاهرين. وهو ما ينذر بضرورة تخفيف الحكم على مبارك أمام محكمة النقض التي ستسدل الستار نهائياً على تلك القضية بإصدار حكم نهائي غير قابل للطعن فيه، إما بتأييد عقوبة السجن المؤبّد على مبارك أو بتخفيف العقوبة، أو بإلغائها وإصدار حكم ببراءة مبارك.
الشوبكي دلّل على رؤيته لمنحى الأمور بالقول إن السلطة الحاكمة فرضت علينا المحاكمة القانونية لمبارك ورموز حكمه. وأضاف «رغم أن تلك المحاكمة هي الخيار الصحيح، تمّت بإجراءات وأدوات باهتة ودون امتلاك إرادة سياسية من المجلس العسكري على تقديم أدلة قوية تدين مبارك على جرائمه».
بدورهم، رأى رجال القانون أن الحكم على مبارك هو حكم سياسي في ثوب قانوني. وأوضح رئيس محاكم القضاء الإداري السابق، المستشار عادل فرغلي، لـ«الأخبار»، أن «المسؤول الوحيد عن براءة مبارك ونجليه وصديقه وقيادات الداخلية هو النائب العام المستشار عبد المجيد محمود، الذي كان من المفترض أن يُقال أو يستقيل عقب سقوط نظام مبارك». ولفت إلى أنه «عادةً تعتمد النيابة العامة على المستندات التي تأتيها إما من الاستخبارات أو أمن الدولة أو الداخلية، ومن ثم يعاب على النيابة أنها اعتمدت على مستندات قد تكون مزوّرة، ولم تبذل جهداً في الحصول على مستندات القضايا المعروضة أمامها».
من جهته، رأى المستشار أحمد وجدي أن «الحكم لا يعدو أن يكون مسرحية هزلية»، مشيراً إلى أن «هشام طلعت مصطفى حكم ضده بالإعدام في جريمة التحريض على مقتل راقصة، ولكنّ المشاركين في مقتل ما يقارب من ألف متظاهر يأخذون براءة».
في المقابل، دافع رئيس نادي القضاة السابق، المستشار زكريا عبد العزيز، عن الحكم. وأوضح أن «الدائرة التي قضت في القضية تضمّ أفضل رجال القضاء في مصر، وحكموا بما أمامهم من أدلة واستشعارهم بالمسؤلية أمام الله». وأضاف «لا يوجد شيء اسمه تطهير القضاء، القضاة حكموا بما لديهم من أدلة ولا غبار عليهم». وحمّل «المسؤولية لوزارة الداخلية»، مشيراً إلى أن الأخيرة قدمت «أدلة مبتورة إلى المحكمة، وأتلفت الكثير من التسجيلات والأدلة التي من شأنها أن تدين المتهمين».
إلى ذلك، بدأت جهات التحقيق أمس بالتحقيق في بلاغات جديدة تتهم مبارك بتهمة الخيانة العظمى، في الوقت الذي قامت فيه مصلحة السجون باستيفاء إجراءات إخلاء سبيل خمسة من مساعدي وزير الداخلية المصري السابق حبيب العادلي الذين قضت محكمة جنايات القاهرة ببراءتهم.