مجدّداً، يعود الحديث عن المصالحة الفلسطينية إلى الواجهة. حديث قديم يتجدّد على نحو دوري بين الحين والآخر، ومعه تتوالى التفاصيل التي لا تلبث أن تسقط عند أوّل امتحان لها، حتى بات مجرّد ذكر المصالحة والانقسام واحتمالات الاتفاق يثير اشمئزاز الفلسطينيين. لكن المسؤولين الفلسطينيين لا يأبهون لمشاعر المواطنيين ويأسهم من اتفاقات المصالحة التي باتت مكدّسة بالأدراج، فها هم يعلنون الاتفاق تلو الاتفاق، من دون أن يخرج إلى العلن أي تطبيق جدي ينبئ بأن هذا الاتفاق في طريقه إلى خواتيمه السعيدة.
آخر الاتفاقات كان ذلك الذي أعلن في القاهرة، وعلى أساسه سيتم التوافق على حكومة الوحدة الوطنية، وستدخل لجنة الانتخابات إلى أراضي قطاع غزة للقيام بإحصاءاتها، تمهيداً لإجراء الانتخابات التشريعية، وانتخابات المجلس الوطني بعد ستة أشهر من تاريخ إعلان الحكومة.
الفلسطينيون استقبلوا الاتفاق بقدر كبير من السخرية واللامبالاة، ومع ذلك أبقى الإعلان قليلاً من الأمل في النفوس، وخصوصاً بعد الدخول الفعلي للجنة الانتخابات إلى القطاع وبدء عملها. فبات الفلسطينيون يتساءلون عن إمكان تحوّل الاتفاق الأخير إلى شيء جدي، وخصوصاً مع التصريحات الكثيرة التي كانت تشير إلى موعد إعلان الحكومة، الذي حدده مسؤولون من «حماس» و«فتح» في السادس من الشهر الجاري.
لكن الآمال ما لبثت أن تبخّرت مع ظهور خلافات في طريق التطبيق. خلافات كالعادة قائمة على المحاصصة في الوزارات والتعيينات والصلاحيات، ووضع الحكومة في دائرة المحاسبة أمام المجلس التشريعي من عدمه. فإلى اليوم، لا تزال المشاورات القائمة في القاهرة تدور حول توزيع الحصص في الحكومة الجديدة، وسط تسريبات عن خلافات بسبب إصرار عباس على حقه باختيار وزراء الحكومة التي سيرأسها، الأمر الذي ترفضه «حماس». كما أن أبا مازن يصر على الاحتفاظ ببعض الوزراء الحاليين في حكومة سلام فياض، التي تشكلت قبل حوالى أسبوعين في رام الله، فيما ترى «حماس» أن جميع الوزراء الذين عملوا تحت إمرة فياض «غير مرحّب بهم». كذلك الملف الأمني غير غائب عن المفاوضات، وسط معلومات عن تباين حول من يتولى حقيبة الداخلية، ورفض دمج الأجهزة الأمنية في الضفة مع تلك التي شكلتها حركة «حماس» في قطاع غزّة. كما برز عنوان خلافي آخر يتعلق بمثول الحكومة أمام المجلس التشريعي، الذي تهيمن عليه «حماس»، لنيل ثقته، وهو ما ترفضه «فتح» على اعتبار أن الحكومة توافقية ومؤقتة، ما دفع نائب رئيس المجلس التشريعي، أحمد بحر، إلى اعتبار أي حكومة لم تنل موافقة المجلس «فاقدة للشرعية».
عناوين كثيرة طيّرت المواعيد إلى آجال بعيدة، فبعدما كان من المرتقب أن يجتمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لـ«حماس»، خالد مشعل، في القاهرة للإعلان عن الحكومة الأسبوع المقبل، تم الإعلان عن تأجيل اللقاء أسبوعين، أي إلى العشرين من الشهر الجاري. ورغم أن التأجيل أسند لأسباب لوجستية، إلا أن ما تسرّب عن خلافات كفيل بإيضاح الصورة المتكونة من الاتفاق الجديد، المهدّد بأن يحذو حذو نظرائه من الاتفاقات القديمة. اتفاقات نُصّبت لها المهرجانات الإعلامية لإعلانها، وتوالت الأخبار العاجلة لشرح تفاصيلها، لكنها بقيت حبيسة الخلافات الثنائية التي لا ناقة للشعب فيها ولا جمل.
مسيرة من الاتفاقات بدأت مع وثيقة الأسرى التي تزامنت مع ظهور ملامح الخلافات والانقسامات، حتى قبل فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية في أوائل عام 2006، وانتقلت إلى مكّة، التي أدى انفراط اتفاقها إلى الانقسام السياسي والجغرافي القائم حالياً بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم تنقلت بين القاهرة وصنعاء والدوحة، قبل أن تحط أخيراً في العاصمتين المصرية والقطرية، حيث أعلن عن التفاهمات الأخيرة للمصالحة الفلسطينية، التي لم يتوان القيادي في «حماس»، محمود الزهار، المعروف بصراحته اللاذعة، عن تشبيهها بمفاوضات «التسوية».
بعد كل هذه الاجتماعات والتنقلات، وما يمكن تسميته «يخنة الاتفاقات» بين «فتح» و«حماس»، لا يزال الانقسام هو الواقع السائد، ما يدفع إلى مجموعة تساؤلات: أليس من الأفضل كتمان هذه الاتفاقات إلى حين الانتهاء النهائي منها؟ أليس من الأجدى أن تبقى التفاصيل في الورق غامضة إلى أن يتم القفز فوق شياطينها التي عرقلت كل ما تم التفاهم عليه في السابق؟ أليس وقع إعلان حكومة على نحو مفاجئ أحلى على نفوس الفلسطينيين؟