يهودي «عربي» صهيوني

بعد انقطاع دام أشهراً، ها أنا أعود، ليس الأمر أني اعتزلت قليلاً أو أني واجهت جموداً فكرياً، أو لا أدري ما الذي قد يكون قد طرأ علي خلال تلك الأشهر، ومنعني من الكتابة، ببساطة تراكم الأحداث لم يفسح مجالاً لها لتتساقط كلمات على لوحة التحكم، وترسم كل المشاهد التي يضج بها عقلي «الصغير» وقلبي الفارغ إلا من الذاكرة التي لا تمحى.

خلال تلك الأشهر بدأت بمحاولات لا تنتهي لأعيل نفسي قليلاً، وأبرهن أني مستقله مادياً، وأني كبرت بما يكفي ولم أعد أحتاج الى معونة والديّ المالية، طبعاً كانت النتيجة ديوناً في «البنك» تفوق مرتبي الشهري بقليل (من الآخر يعني).
لكن هو هذا العمل الذي لم يتركني إلا مندهشة يوماً بعد يوم، وليس أني أعمل في إحدى المنظمات الإنسانية أو الجمعيات الخيرية وألقي نظرة على مآسي العالم يوماً بعد آخر، أبداً، أنا ببساطة أعمل في شركة اتصالات كموظفة خدمة زبائن هاتفية، في القسم التقني، مجال بعيد كل البعد عن اهتماماتي وتخصصي، لكنه ولسخرية القدر ألقاني أمام واقع لم أعلم بوجوده، وجعلني أطرح تساؤلات لم أظن يوماً أني سأفكر فيها مرتين.
هناك حيث أعمل، لم أواجه العنصرية، رغم أن الشركة إسرائيلية (هي شركة خاصة لا حكومية)، وهي إحدى الشركات التي كانت تمتنع عن تشغيل العرب سابقاً (دون سبب محدد، ربما لأن معظم زبائنها من اليهود)، حتى أثير الموضوع مرة ووصل إلى أروقة المحاكم، وصار الآن معظم عامليها من العرب (ربما أرادوا إثبات العكس، من يدري)... المهم أنني وجدت فيها مكان عمل يلائم وقتي كطالبة جامعية، ولا يتصادم مع ساعات تعليمي أو مبادئي!
هناك حيث أعمل واجهت مواقف لم أظن أنني سأواجهها، وتعاملت مع بشر لم أعترف بوجودهم، ولم أتوقع وجودهم، ربما لم يخطر على بالي أنهم موجودون أصلاً، وهم كثر، لكن هناك محادثتان حتى الآن لم أستطع نسيانهم، رغم أني منذ بدأت العمل تلقيت آلاف المحادثات من زبائن مختلفين، إحداها هي أول محادثة حيث رفض الزبائن الحديث إلي لأني «عربية» وطلبوا التحدث الى موظف «يهودي»، أجبتهم (بالعبرية طبعاً، لكن بلكنة عربية تعمدت إظهارها وبقوة) وبكل «أدب»: «إن أردتم أجيد التحدث بالألمانية قليلاً (اخترت الألمانية مصادفة، لكنها مصادفة موفقة!)، كما أني لا أستطيع تحويل المكالمة الى موظف آخر إن أردتم الحديث الى موظف يهودي بإمكانكم قطع المحادثة والاتصال من جديد، ربما حينها يجيبكم موظف يهودي».
أما المحادثة الثانية، وهي الأهم، فهي عندما اتصل أحد الزبائن، الذي لم أنس اسمه حتى الآن، كان اسمه شموئيل (الترجمه العربية للاسم هي صموئيل)، كان رجلاً عجوزاً، استطعت تمييز هذا من صوته المتعب، ثم ما لبث أن عرف أني عربية الأصل (عرف هذا من اسمي)، حتى بدأ الحديث معي بالعربية: «انت اسمك أنهار مثل دجلة والفرات؟»، دهشت حينها، سألته ببلاهة: «بتحكي عربي؟»، قال لي: «ما انا عربي، أنا، عراقي من العراق!!»، فقلت له: «نعم، أنا أنهار مثل دجلة والفرات والنيل»، قال لي: «أنا أفرح أكثر عندما يجيبني موظف عربي، أنا بكره الروس، ما بحبهم لأنهن بس بيساعدوا بعض، أصلاً أنا لو بطلع بإيدي برجع ع العراق»، فضحكت حينها، فأكمل يقول: «إحنا العرب لازم نساعد بعض!!»، كان كلامه صادماً لي، لم أستطع استيعاب ما قاله، «إحنا العرب» «نساعد بعض» «ا بحب الروس» «أنا عراقي»، كلها كانت تتساقط على عقلي «الصغير» بسرعة، بسرعة لم أستطع استيعابها، كانت تتساقط وتمطر معها تساؤلات لا تنتهي: «هل هذا العجوز عربي حقاً؟»، «هل اعترافه بعروبته وحزنه لتركه العراق يجعلان منه عربياً؟»، «هل بصفته عربياً يكون له حق في أرض فلسطين؟»، «أم أنه بمجرد قدومه لتحقيق حلم الصهيونية يكون قد تخلى عن عروبته؟»، «ماذا لو كان قد ندم وتخلى عن صهيونيته؟ هل يكون له حق حينها في فلسطين العربية؟»، هو في نهاية المطاف، لا يمكنه العودة الى أرض العراق، على الأقل الآن، إذن «هل أرحب به كعربي أم هو مثلهم جميعاً جاء ليسلبنا أرضنا، وندمه لن يشفع له؟»، كل هذا كان يختلط مع حديثه ولهجته العراقية الواضحة، ولغته العربية العامية التي تدل على أصله العربي القح، يختلطون جميعاً في مزيج غير متجانس، ويحاولون غزو عقلي «الصغير» بكل تلك التساؤلات!
لم أجد إجابة عن هذه التساؤلات وقتها، ربما الآن أيضاً وبعد شهور كثيرة من هذه الحادثة ما زلت لا أملك إجابة قاطعة، لكني أذكر أني حينها أردت أن أصرخ به: لماذا جئت الى هنا، لماذا أعطيتهم شرعية بأن يأتوا الى هنا، لماذا لم تحافظ على عروبتك أيها «العربي»، لماذا تبعت «حلم صهيون» وتخليت عن عروبتك، لماذا سمحت لهم بأن يسلبونا فلسطين، لماذا؟؟... لكني لم أفعل، كل المحادثات مسجلة!!!
الجليل ـــ أنهار حجازي