«في أحد أيام الصيف المشمسة، ذهبت أنا وعائلتي إلى قريتي. ونحن في الطريق إلى وسط القرية، طالعتنا قامة فلاح أسمر البشرة، عريض المنكبين، مفتول العضلات، لوّحت وجهه الشمس الحارقة». هذه العبارة مرت على كل الطلاب في الصغر، فلا تستطيع أن تجد تلميذاً إلا كان قد كتبها يوماً من الأيام في نص إنشائي طلبته المعلمة لوصف رحلة افتراضية قام بها إلى قريته. أفكر اليوم في تلك الكلمات، وكيف أن المدرسة علمتنا الكذب منذ الصغر. فكيف يستطيع فلسطيني لاجئ في لبنان أن يصف زيارته لقريته؟ فأنا لم أزر في حياتي قريتي دير حنا، وقد أموت من دون أن أستطيع زيارتها؛ إذ إنها ببساطة محتلة. وحتى لو أنني كنت بالفعل أقطن في فلسطين، داخل أراضي الـ48، وتحديداً في قريتي، فهل أستطيع أن أتجول براحة؟
الجواب لا، وحتى لو كنت أملك «هوية إسرائيلية» فرضوها عليّ غصباً عني. فأنا بالنسبة إليهم في النهاية عربي. وكل فلسطيني داخل الـ48 متهم حتى تثبت إدانته! هيا لنقم بهذا التمرين: لنفترض أنني تلميذ في إحدى مدارس الأونروا في رام الله، والمعلمة هناك طلبت أن أكتب نصاً عن رحلة قمت بها مع عائلتي إلى قريتي دير حنا. ما هو مؤكد أن رحلتي لن تكون بهذا الجمال والهدوء؛ فالحواجز الإسرائيلية تحاصر الضفة الغربية وتقطعها إلى أجزاء صغيرة، وطرقات المستوطنات التي تخترقها وتقسمها في آن واحد، ممنوع على العرب سلوكها، ما يجعل رحلتك أقرب إلى «واحد مش مصدق ع الله» كيف يجد طريق الخروج من هذه المتاهة. ولنقل إنني استطعت الوصول إلى تلك القرية المفترضة، وبالفعل رأيت ذلك الفلاح «الأسمر البشرة، العريض المنكبين، والمفتول العضلات»، فهل سأراه يفلح ويزرع «عادي» بلا مضايقات؟ ولنفترض أيضاً أن زرعه نما، فهل كانت أشجاره ستبقى فوق جذوعها؟ أم أن قطعان المستوطنين كانوا سيقتلعونها، متذرعين بأن المنطقة عسكرية؟ أما الأسوأ من هذا وذاك، فهو «الفلاح» نفسه لو كان ابن قطاع غزة. فهناك ممنوع عليك الاقتراب أصلاً من أرضك، إذا صادف أنها تقع بالقرب من المراكز العسكرية. وإذا ما غامرت واقتربت فستطلق عليك النار. وإن لم تُطلَق النار عليك، فأنت لن تستطيع أن تصرّف رزقك؛ فأنت، وهنيئاً لك كفلاح، تعيش في قطاع محاصر.
وحتى لو كان ذلك الفلاح المدرسي الجميل يسكن لبنان؟ فهل كان سيصبح أكثر واقعية؟ أبداً. ففي تلك الفترة، كان الجنوب هو الآخر محتلاً، وكانت القنابل العنقودية «تنغل نغلاً» في أراضي الفلاحين، ولم يكن هناك «ابن مرا» يستطيع الوصول إلى أرضه لوجود جيشين: جيش العميل أنطوان لحد والجيش الإسرائيلي.
أما المقطع الأجمل في نصنا الإنشائي، فكان وصفنا لزوادة الفلاح وكيف كان يحين وقت الغداء، فيجلس «تحت الشجرة ليخرج من زوادته بصلاً وزيتوناً وبندورة»! وكنا نضيف: «ثم شرب الماء البارد من إبريق الفخّار ونام قليلاً ليرتاح من تعب النهار». ما زلت حتى الآن لا أفهم كيف كنا نتخيل كل ذلك وأنا أعيش في مخيم ليس فيه شجرة واحدة، بل هو غابة من الباطون تحاصرك وتأسر نظرك. كيف استطعت بمخيلتي أن أذهب في تلك الرحلة؟ ومع من؟ مع عائلتي التي لم يكن أفرادها يلتقون، لا في أيام الآحاد، ولا في أي يوم آخر من الأسبوع.
على الأرجح، إن تلك التمارين كانت لتنمية مخيلتنا. ولو كنا نعرف أن هذا هو الهدف من الفرض لكتبنا من واقعنا الآتي: «في أحد أيام الصيف المشمسة، التقيت بفلاح في المدينة. أخبرني ذلك الفلاح العجوز، صاحب القامة الضعيفة، عن مدى اشتياقه لقريته الممنوع من زيارتها؛ لأن هناك شخصاً يحمل بندقية احتلها وعالماً خالياً من الأخلاق يقف وراءه».