تخرج مسرعة من المقصف وصديقتها إلى لوحة إعلانات الجامعة حيث نتائج الامتحان الأخير، لتكتشف أنها حازت علامة شبه ممتازة. تطلق العنان لمزاحها المعتاد ويبدأ مسلسل مديح الدكتور صاحب المقرر، موجهة حديثها إلى صديقتها: ألم أقل إن الدكتور رائع؟ «بيكفي إنو من عنا». وبنرجسية ساخرة تتابع: «احنا كلنا هيك».
في مكان آخر، في مقصف اللغات في جامعة دمشق، تدوّي ضحكة ماهر، بعد تباهيه بأنه صاحب عبارة «ممر الدكاترة الفلسطينية» نسبة إلى أحد ممرات كلية الآداب الدمشقية التي فيها مكاتب عدد كبير من أساتذة الجامعة الفلسطينيين.
تعود إلى المنزل مساءً في ليلة شتوية باردة لتجد الشباب يتسمرون أمام التلفاز في متابعة لمباراة كلاسيكو إسبانيا، التي ما إن يتألق فيها قلب الدفاع الكاتالوني القوي ذو الكاريزما «بويول» الذي يلقب لذلك بقلب الأسد، حتى يصرخ أحدهم «بويول فدائي من المخيم»، يقاطعه صديقه مزايداً: «خيا بويول وحش مقلع ضراسو بلبنان أيام الفدائية».
وليس غريباً أن تستقبلك جدران المخيم بعبارات لا تخلو من نرجسية جيل حملة السلاح والثورة، كان قد كتبها ربما لقامات فلسطينية رحلت قبل أن تقفل وراءها أبواب المخيم. إلى جانبها عبارات تتنافس الفصائل عبرها في ما بينها على إبراز هويتها وتاريخها. وإذا ما سمعت مقطعاً على وزن الدلعونا «إحنا الشباب الفلسطينية إحنا اللي علمنا الناس الحرية»، فاعلم أن الحظ وقف إلى جانبك؛ فأنت تعبر قرب أحد الأعراس في مخيم اليرموك.
وربما كان الراحل محمود درويش قد نعى مرحلة النرجسية الفلسطينية بعد الأحداث الدموية التي حصلت في قطاع غزة صيف 2007، وسال معها الدم الفلسطيني بأيادٍ ثورية فلسطينية هذه المرة، حين قدم نصه النثري «أنت منذ الآن غيرك». إلا أن صفحات ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي الفايس بوك والتويتر من الفلسطينيين ترفع على ما يبدو شعار «لا نريد لهذه النرجسية أن تنتهي»، فتزدهي هذه الصفحات بعبارة «ما حاجتنا للنرجس ما دمنا فلسطينيين» من النص ذاته. فالنرجسية الفلسطينية، وفق ما يقول درويش، تستمد قوتها من الدفاع عن الحق الفلسطيني في الحياة والاستعداد للتضحية من أجله، لا لشيء غيره.
وكان من شأن اندلاع الثورة الفلسطينية، منتصف ستينيات القرن الماضي، وظهور « أيقونة الفدائي الأسمر» العائد من مخيمات البؤس إلى وطنه، وانتظار النساء على أبواب المخيم ليالي عدة عودة هؤلاء الذين قرعوا جدار الخزان، واقتحموا حدود وطنهم لينزعوا عنهم غبار اللجوء، أن سمح بظهور نرجسية خاصة لازمت شخصية الفلسطيني، من دون أن تتمكن السنون من إزالة البريق من العيون عند الحديث عن «أيام الثورة»، ولا سيما تلك التي كانت شوارع بيروت وحاراتها بطلها الرئيسي.
ويبدو كذلك أن رحلة التيه في دول الشتات التي كابد خلالها اللاجئون صعوبات جمة، ربما عبّرت عنها مقولة جدي «ما ضل إلنا من بعد الله غير التعليم»، أتت أكلها في تخريج جيل فلسطيني استطاع أن يبرع في مجالات عدة: من السياسة، وجبة فطورنا اليومي وإن لم تقدنا إلى شيء يذكر، إلى الاقتصاد والأدب والفنون، وصولاً إلى براعتهم في «مجال» شدّ البنات، كما يمازحني أحد الأصدقاء.
والفلسطيني يعيش ربيع ثورته منذ نحو أربعين عاماً، ويسمع بارتياح ما قاله الرئيس التونسي المنصف المرزوقي «إن الشعب الفلسطيني أبو الثورات العربية»، إلا أن وقوعه جسماً هادئاً وسط دائرة عربية ملتهبة، جعله يبدو جسماً غريباً. هكذا، تعيش نرجسية «وأقول لا» الفلسطينية، منافسة نرجسيات عربية مماثلة، وخاصة في الدول التي شهدت تغييرات ديموقراطية أخيراً. وتماهت الـ«لا» الفلسطينية مع مثيلاتها الجديدة لجهة الرسالة التي تحملها، رسالة ضد الظلم مهما كان. ولم يعد مهماً من يحتل الأولوية في نشرات الأخبار.
وعلى وقع المشهد الضبابي لما يمكن أن يحمله «الربيع الجديد»، يعيش اللاجئ ربيعه على طريقته الخاصة: فأحمد من مخيم برج البراجنة يشرّع باب نافذته صباحاً، متفائلاً بأن تهبّ نسائم الربيع على حقوقه «الإنسانية» التي طال انتظارها، ويلقي عليه هشام تحية الصباح من شرفته في مخيم اليرموك، ويرفعان معاً شارة المخيم وسقف تفاؤلهما بأن تصل مخيماتهما إلى حيث تشير البوصلة التي لم تخب يوماً.
أتمعن طويلاً بما قاله محمود درويش «هل كان ينبغي أن نسقط من علوٍ شاهق لندرك أننا لسنا ملائكة... كم كذبنا حين قلنا إننا استثناء». تقاطعني والدتي وهي تتفحص هيئة ولهجة أحد الممثلين في مسلسلها المفضل الجديد، فتسألني: «كأنو من عنا»، أبتسم وأجد نفسي أمارس دور الصدى، «أي هاد من عنا».
مخيم اليرموك ــ معتصم أبو خميس