اليسار في مصر بعد الثورة ليس كما كان قبلها، بالرغم من أن الصورة النمطية عن اليساريين في مصر جرى تبسيطها في الاعلام ليتحولوا إلى مجموعات متفرقة تحترف السهر على البارات ومناقشة أطروحات عفا عليها الزمن وتخوين إحداها للآخرى. فاندلاع الثورة كان كفيلاً بإحياء اليسار من العدم، لكن هذا التطور لم يكن كافياً بطبيعة الحال لاستكمال الثورة. ففشل اليسار المصري، على اتساع تكويناته وتياراته، في التقاط لحظة الثورة، وربما لم ينجح في قراءة المشهد الثوري الذي كان كفيلاً، إذا ما توفرت في هذه التنظيمات العقليات والقيادات المناسبة للحظة، أن يعطي دفعة كبيرة له وأن يوسع من رقعة تواجده في الخريطة السياسية وفي المجتمع المصري.
الحديث عن الخبز والكرامة كان واضحاً جداً في خطاب اليسار بل متلازم وسابق للحديث عن مطلب الحرية والديموقراطية والسياسية. وهذا لم يكن يتطلب من اليسار إلا أن يلتقط هذا الخيط ليسعى إلى تحقيق مطالب الثورة في هذا الاتجاه. غير أن التنظيمات اليسارية، الحزبي منها والاجتماعي، فشلت على غرار العديد من القوى السياسية في اثبات قدرتها على تحقيق أهداف الفئات التي التحمت بالثورة وكانت تسعى إلى تحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. وجاء موعد الانتخابات الرئاسية ليزيد من تشرذم التيارات اليسارية التي يراوح وجودها بين الصلابة التنظيمية والسيولة التنظيمية.
ويرى كمال خليل، أحد الرموز التاريخية لليسار الماركسي والقيادي في حزب «العمال والفلاحين» (قيد التأسيس) أن «الأزمة العميقة في اليسار تبدت في انقسام أصواته بين أربعة مرشحين لمنصب لرئاسة الجمهورية وهم حمدين صباحي وخالد علي وأبو العز الحريري وهشام البسطويسي».
حزب التحالف الشعبي الاشتراكي قرر قبل عدة أشهر الدفع بأبو العز الحريري، القيادي في الحزب وعضو مجلس مجلس الشعب، إلى السباق الرئاسي، بعد مداولات حول امكانية دعم المحامي اليساري خالد علي. إلّا أن الجناح اليساري في حزب التحالف الشعبي، وهو منبر التجديد الاشتراكي الذي يمثل مجموعة انشقت عن الاشتراكيين الثوريين قبل الثورة، قرر وحده دعم المرشح الاسلامي عبد المنعم أبو الفتوح استناداً الى برنامج اقتصادي كُتب بيد نشطاء يساريين رأوا أن ترشح أبو الفتوح، كوجه اصلاحي وصاحب خلفية محافظة، يمثل تجنباً للاستقطاب بين ما يسمى «القوى المدنية» والاسلاميين.
حزب التحالف نفسه كان قد أُسس بعد الثورة من قيادات سابقة في حزب التجمع الوطني الوحدوي، الذي ينحدر منه أبو العز الحريري نفسه، بعدما بدا لليسار أن التجمع قد أصبح أطلالاً بعد عقود قضاها موالياً لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك. وهو ما كان يُبرر على الدوام، من قبل رئيسه السابق رفعت السعيد، بضرورات مواجهة صعود المد الاسلامي والإخواني. التجمع نفسه قرر دعم هشام البسطويسي، أحد رموز معركة استقلال القضاء في أواسط العقد الماضي، فيما احتفظ خالد علي، وهو عضو سابق في حركة الاشتراكيين الثوريين، بتأييد نسبة لا بأس بها من نشطاء اليسار المستقلين واليسار الديموقراطي الذين كانوا قد انضموا للحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي، الذي يقع في منزلة بين يمين الوسط ويسار الوسط.
أما الاشتراكيون الثوريون فاتخذوا موقفاً مختلفاً من الانتخابات، معلنين رفضهم دعم أي مرشح احتجاجاً على فشل المرشحين الموالين للثورة في التوحد في ما بينهم بعد فشل جهود قادتها مجموعة من الشخصيات العامة تجنباً لتفتيت الأصوات. كما انضموا لحملة «إمسك فلول»، وهي حملة واسعة على مستوى مصر أسسها نشطاء من مختلف التوجهات في مواجهة المرشحين أحمد شفيق وعمرو موسى، رافضين في الوقت نفسه الدعوة لمقاطعة الانتخابات على عكس موقف كمال خليل. خليل، الذي انضم إليه في موقفه عدد من النشطاء المستقلين، برر اللجوء إلى خيار المقاطعة «برفض أي انتخابات في ظل حكم العسكر. فالعيب ليس في أشخاص المرشحين بل في طبيعة الحكم العسكري الذي جعل من رئيس الوزراء الأول بعد الثورة عصام شرف والذي بدا مقرباً من الثورة في البداية، يتحول لشخص منزوع الصلاحيات وكذا البرلمان بل وكمال الجنزوري (رئيس الوزراء الحالي) الذي قيل لنا إنه يحمل صلاحيات رئيس الجمهورية».
ولعل أخطر ما في مشهد تشرذم اليسار، الذي يتوحد فقط في الخشية من أن يتم إحياء النظام القديم، أن صعود رصيد مرشحي اليسار لا يتم إلّا على حساب بعضهم البعض، وهو ما يعطي انطباعاً بأن الصراع الانتخابي هو صراع «صلع على مشط»، وهو ما يدركه كثير من المرشحين اليساريين أنفسهم الذين لم يستطيعوا أن يحققوا الحد الأدنى من الوجود في الشارع والالتحام بمطالب الناس في فترة ما بعد الثورة.
وإن كان اليسار المصري يتشابه مع غيره من الجبهات الإسلامية والليبرالية في الانقسام، غير أن أحداً لا يشبهه في تفتت كتلته الانتخابية. وهو ما يجعل الحديث عن الانتخابات الرئاسية وما ستفرزه أمراً غير ذي جدوى إذا لم تحقق هذه التيارات الحد الأدنى من التوحد أو على الأقل العمل على الأرض لبناء قواعد جماهيرية تضمن استقرارها واستمرار وجودها.