لو أن لي أباً يحبني
«فلأذهب إلى موعدي، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه أحد من غير أسلافي، بشاهدة من رخام لا يعنيني إن سقط عنها حرف من حروف اسمي، كما سقط حرف الياء من اسم جدي سهواً».
الحمد لله أن كلاً من درويش وكنفاني وناجي، قد تركوا لنا من أيامهم ما ننكص به إليهم في أيامنا هذه، أستعير بعضاً من شيء كنت قد كتبته سابقاً عندما سألني صديقي الصحافي معتصم أبو خميس، في ليلة حالكة السواد لم ينم فيها المخيم، وأهله يبكون دماء ثلاثين من أبنائهم لا يعرف أي منا بأي ذنب قتلوا، كان ذلك ليلة السابع من حزيران من العام الفائت عندما جاءني في الثالثة فجراً لأجيبه عن لو«اته» الثلاث.
لو كان أبو عمار حياً فإنه لن يوقف المجزرة، لكنه سيبكينا وعندها سأشعر بأن هناك من له قلب علي، ولو كان ناجي العلي حياً فإنني أجزم بأن حنظلة لن يشفع له أمام من سيسارعون لكسر أصابعه قبل أن يرسم لاجئاً يلجأ، ولو كان درويش حياً لكتب عنا اليوم ما لا نعرف كيف يكتب.
إن تجاوز الفلسطيني «لو» لأنها تفتح عمل الشيطان، فإنه لا يستطيع تجاوز «لماذا» لأنها تفضح التفاصيل التي يسكنها ذاك الشيطان نفسه.
فلماذا لم نجد من يرد تلك القذيفة التي إن كنت في أفضل نواياي الحسنة لقلت إنها ضلت طريقها وسقطت في المخيم بدلاً من بابا عمرو؟ هنا الموقع الوحيد الذي لم تعد اللماذا مفيدة فيه ولا الجواب عليها، بعدما سقطت القذيفة وأخذت معها المنزل، لم يعد «للماذا» أهمية بعدما زهقت أرواح ثمانية لاجئين فلسطينيين بدم بارد في مجزرة العدوية في حمص في الليلة نفسها التي كانت فيها الأرواح تحصد في غزة، كرمان للزيتون كانا تحت وطأة السياف، في المنافي تتشابه الأمكنة حتى بالأسماء ولو مصادفة.
لماذا لم يتقدم قائد فلسطيني واحد باعتذار لشعبه عن تقصيره في صون دمائهم، في الحفاظ على ما أؤتمن عليه، ربما لم يدر أحد حتى اليوم بأن هناك ثماني جثث فلسطينية، سقطت في تلك الليلة المجزرة.
لماذا يجب أن يكون الفلسطينيون دائماً ضحايا جانبيين في الصراعات والأزمات التي تعصف بكل أمم الأرض؟ لماذا يدافع الجميع عن رعاياه ولا نجد من يمد يداً لا تغرقنا، إذ لم نطلب من احد أن ينجينا من الغرق؟
عندما بدأت القوات الأميركية تغزو العراق، هب آلاف الفلسطينيين إلى العراق لقتال المحتل، من بينهم كان مراهق في السابعة عشرة من عمره، خرج دون ان يخبر والديه اللذين علما لاحقاً من أصدقائه، أسرع خطىً رأيتها طيلة عمري هي قدما أمه الحافيتان تتسابقان وتشق أمه بيديها الجموع المتجمهرة عند الباص الراحل بمن فيه إلى بغداد، لم تنتظر على باب الحافلة لتلتقط أنفاسها وتصيح «إنزل يما» رفض النزول، أحاطها رجال من الأمن أزاحتهم وقالت مقولتها الشهيرة:
«نبوس الأيادي لنحصل على تأشيرة لا تأتي إلى أي بلد في أي بقعة على الأرض لنعلّم أبناءنا أو نعمل كغيرنا من البشر، أما التأشيرة إلى حيث ينتظرنا الموت فإنها تأتينا دون ان نطلبها».
نزل ابنها صفعته ثم لفته بذراعيها وعادت به إلى المخيم وهي تقول «لمين تاركني يا ابن الكلب؟».
ولأننا كنا صغاراً حينها، نسينا أن نسأل، ما الذي دفع الفصيل الفلاني إلى أن يجود يومها بما لم يجُد به قبل ذلك ويتكفل بدفع تكاليف وثائق السفر لكل فلسطيني من منفاه إلى ساحة الموت في العراق؟
ما أعلمه أنه لو تدبّر الفلسطينيون من امرهم ما تدبّروا، لأجلوا كل إمكانية لاعتقالهم إلى ما خلف حدود الجولان وما بعد بوابة فاطمة، حيث الأسر يكون مبرراً والموت هناك بكل صخبه يكون جميلاً.
لم يشهد التاريخ لاجئين علقوا على حدود منافيهم كالفلسطينيين، فالتنف والرويشد شاهدان لمن تشردوا بعد ثلاث سنوات من التيه إلى التيه الأكبر في أميركا اللاتينية والسودان الأفريقية وبعض من دول اوروبا، ونسينا أيضاً حينها أن نسأل أشردوا فرادى أم عائلات؟
وبين السبعينيات في الأردن، مروراً بلبنان وحروب جميع الأمم فوق أرضه، إلى ليبيا والعراق، نصل إلى سوريا.
اليوم عشرات العائلات هجرت مخيم حمص وآوى اللاجئون لاجئين كمثلهم، وقالوا «منازل اللاجئين في مخيم اليرموك مفتوحة لنازحي حمص» وفي الوقت الذي يقضي فيه عشرات من أصدقائي ومئات من اللاجئين الفلسطينيين في غياهب معتقلات النظام السوري، يلقى آخرون حتفهم بين من يلقونه اليوم، ولكن دون مقابل، ودون سائل من قادتنا يسأل أين ذاك الطفل الذي نقص من العائلة؟ إذ لم ينتبه إلى أن دموع أمه هي دموع ثكلى.
الفلسطينيون يشعرون اليوم وأكثر من أي يوم مضى بأن دمهم مستباح ومباح لكل من شاء أن يرى دماً ويبني نصراً، يشعرون بيتم حقيقي، وعلى حد تعبير أحد الأصدقاء لو أن لي أباً يحبني لرد عني رصاصة نأى بنفسه عنها وتركني أسقط فوق دمي، لربما نجوت فقط لو أنّ لي أباً يحبني.
مخيم اليرموك - نضال بيطاري