البداوي | لم تجد فريدة حسين عمار مكاناً تحمي فيه عائلتها من جحيم النار المندلعة على خط التماس، بين حي المنكوبين وجبل محسن، سوى مخيم البداوي. صورة سوريالية، لاجئة لبنانية تحتمي لدى مخيم للاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، وبالتحديد في منزل أبي ابراهيم الذي لجأ إلى البداوي بعد تهجيره من مخيم نهر البارد. منذ عقود طويلة، تركت عمار مع أهلها بلدتها فنيدق هرباً من الفقر والعوز، لتجد نفسها عاملة في الخدمة المنزلية، متنقلة في الإقامة من مكان إلى آخر، ليحط بها القدر على «بوز المدفع» في أشد الأماكن حماوة عسكرية بين جبل محسن والمنكوبين.
أبعدتها بساطة العيش عن التداول في السياسة، وتبرع «نسوان جبل محسن» كما جيرانها في المنكوبين بربطة خبز لم يسمح بتوريطها بالحس المذهبي السنّي _ العلوي، وبخاصة أن أحد أبنائها تربى مع رفاق له من الطائفة العلوية في دار للأيتام قريبة من موقع سكنها.
حلمت عمار بأن يكون لها بيت صغير، فجمعت قروشها من خلال بيع الألبسة المستعملة، لكنها تستدرك لست «تاجرة ألبسة مستعملة»، فقد كنت أكدس ما يتبرع به المحسنون من ملبوسات عتيقة، لأبيعه في سوق الجمعة في طرابلس. تبكي فريدة عمار خسارة منزلها في الأحداث، قائلة «الله لا يسامحهم لا دنيا ولا آخرة، والله جبلت الزعتر بالماء وأطعمته لأطفالي اليتامى». لكن عمار لا تلقي المسؤولية على طرف دون آخر، فـ«الزعران كانوا يطلقون النار من خلف منزلي» فيرد عليهم الطرف الآخر، «حرام الدنيي فيها آخرة» وأنا لا أُحمّل المسؤولية لطرف بعينه.
يشعر أبو ابراهيم بأنه يرد الجميل للبنانيين، فقد «تحمّلونا 64 سنة، مش كتير علينا أن نتحملهم كم يوم». وهو على أي حال لم يكن الشخص الوحيد الذي رحب باستقبال «ضيوف» لبنانيين في منزله، فقد سبقه إلى ذلك الحاج محمد حسين الذي جاءته امرأة ومعها ابنتاها وطفلها من حي المنكوبين أيضاً، فاكتفى بإعلام اللجنة الأمنية في المخيم، التزاماً بتوجيهات المرجعيات لـ«عدم توريط المخيم بأي التباس على صلة بأحداث طرابلس».
لمرة واحدة من بعد طول اتهامات للمخيمات الفلسطينية بأنها بقع أمنية خارج السيطرة، وملاذ للخارجين على القانون، استطاع مخيم البداوي أن يقدم صورة مختلفة، بل مناقضة لما جرى على بعد أمتار قليلة منه في منطقتي الريفا والمنكوبين، حيث حشدت المرجعيات المذهبية مقاتليها وأطلقت العنان للقذائف والإنيرغات من جهة، وطلبت بتحفظات متباينة تدخل الجيش اللبناني لبسط السلطة والأمن من جهة أخرى. وما خجلت تلك المرجعيات من قوله، تكفلت به صفحات التواصل الاجتماعي. فمع كل زخة رصاص أو انفجار قذيفة، كانت صفحة ناطقة باسم هذا الفريق أو ذاك تطلق وابلاً من الشتائم بحق مقدسات الفريق الآخر.
وبينما كان الجيش اللبناني ينتشر في الأحياء التي شهدت أعنف المعارك، ويتحدث المعلّقون عن الوقت المطلوب لعودة الحياة إلى طبيعتها في تلك الأحياء، كانت عجقة البداوي في ذروتها، فحتى ساعات متأخرة من الليل كانت جنبات الطرقات والأزقة تشهد على تجمعات الشباب، بعضهم يدخن النرجيلة، والبعض الآخر يحضر عرضاً سينمائياً في ساحة عامة لمناسبة الذكرى الرابعة والستين للنكبة. وبسرعة مذهلة، تناسى الناس أصوات الانفجارات التي كانت تدوي في اليومين الماضيين، فلم يبق منها سوى ما ذكره الخطباء في الاحتفال بذكرى النكبة من تأكيد لعدم التدخل في «صراعات لا تخدم لبنان ولا فلسطين» ومن وصف ما جرى من أحداث بـ«الإشكالات التي تدمي القلوب»، لكن «المحافظة على أمن المخيم مسألة أولى»، وهي توجب «عدم الانجرار وراء أحداث لا شأن للمخيم بها».
تولت «كتيبة شهداء البداوي» ضبط المنطقة المحاذية لمحور وادي النحلة _ المنكوبين _ جبل محسن. يتحدث للأخبار قائد الكتيبة علي أبو الشوق، بعد يومين من السهر المتواصل والمتابعة الميدانية في أخطر منطقة بالنسبة إلى المخيم، فيقول بزهو «أتحدى إذا كان هناك بقعة في لبنان فيها استقرار أمني بحجم الاستقرار في المخيمات الفلسطينية».
ويضيف أبو الشوق «خسرنا مخيم البارد ولا نسمح بزج المخيم بأي زواريب تؤدي إلى تكرار تجربة البارد». لذلك حرص عناصر كتيبة شهداء البداوي على عدم السماح للمقاتلين من الجهتين بالاقتراب من المخيم، حتى لا يحسب أحد أن إطلاق النار مصدره المخيم، علماً بأنه حدثت محاولات عدة للاقتراب من المخيم، وكان التصدي لها على مستوى من الدقة والحساسية. ولم يشأ قائد الكتيبة ذكر الفريق المعني بمحاولة الاقتراب وتوريط المخيم «منعاً لالتباسات لاحقة». ولدى سؤاله عن احتمالات لتعاطف أبناء المخيم مع أحد أطراف النزاع اللبنانيين من الباب المذهبي، انتفض أبو الشوق قائلاً «هذه اللغة غير موجودة إطلاقاً في الوسط الفلسطيني»، ثم اندفع أبو الشوق لتوصيف انعكاسات «الحراك في المنطقة العربية» على اصطفاف القوى السياسية في لبنان، ليختم بقوله «ليس من واجب الفلسطيني تحديد موقفه من الحراك العربي ومن اصطفافات اللبنانيين إزاءه، إنما تتحدد جدية ذلك الحراك وصوابيته في ضوء موقف القائمين به من القضية الفلسطينية». وإلى الكلام السياسي الذي أطلقه أبو الشوق، أضاف أحد مساعديه، الملقب بأبي زيد، إن أبناء المخيم ساعدوا الكثير من عائلات المنكوبين التي حاصرتها الاشتباكات، فتم نقلها إلى المخيم، ومن هناك جرى تأمين الاتصال بذويها في المناطق البعيدة. وأضاف أبو زيد إن أبناء المخيم قاموا بتوفير الخبز للعائلات المحاصرة في بيوتها، التي لم ترغب في الرحيل
عنها.
وفي جولة على حدود المخيم المتاخمة للمنكوبين، قال أحد عناصر كتيبة شهداء البداوي لـ«لأخبار»، وهو يشير إلى صورة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، «تصوّر أن بعض اللبنانيين يتهمون أبناء المخيم بأنهم ما بيخافوا الله»، ثم أضاف، «يبدو أن أصدقاءنا اللبنانيين نسوا أنه لا دخل للطائفية والمذهبية في تمييزنا بين العدو والصديق».
أما بعض مهجري البارد الذين لم يعودوا إلى منازلهم، فقد أظهروا سخرية من المتاجرين بالقضايا الدينية، وتساءلوا من دون الإفصاح عن أسمائهم، أين كان هؤلاء يوم دُمر نهر البارد؟ بل أين هم الآن من التلكؤ في إعمار المخيم، ومن المساهمة في عودة الحياة إلى طبيعتها في المخيم، بل أين هي وسائل الإعلام التي لم تكن تتوقف عن ترداد عبارة رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة «الخروج مؤقت والعودة أكيدة»؟



غداة اندلاع الأحداث الأمنية في طرابلس، عقدت الفصائل واللجان الشعبية الفلسطينية في شمال لبنان اجتماعاً، وصفته بـ«الهام»، وناقشت في خلاله الأوضاع الأمنية، وتوقفت أمام الاشتباكات الجارية في جوار مخيم البداوي، وأكدت «حزنها الشديد على الدم اللبناني النازف» الذي لا يستفيد من إراقته إلا العدو الصهيوني. وأكد المجتمعون أن مخيم البداوي «بقواه وفصائله وفئاته الاجتماعية يقف على مسافة واحدة من الجميع». ودعوا «بعض وسائل الإعلام إلى توخي الحيطة والحذر قبل تسريب المعلومات التي لا تمت للحقيقة والواقع بأية صلة».