حينما بدأت عملية رفع الانقاض في مخيم نهر البارد، عثرت فرق من الجيش اللبناني على اعمدة من الغرانيت وتيجانها ومنحوتات ضخمة ومعاصر زيت، فلطم اهله المنتظرين بفارغ الصبر إعادة إعمار مخيمهم: لم يكن ينقصهم إلا الآثار لزيادة طين انتظارهم بلة. بالمبدأ، تصورهم خطأ. فالآثار فرصة تحلم بها الشعوب لتطور مناطقها وتحسن وضعها، لكن حينما بدأت عملية تسييس ملف الآثار المكتشفة في نهر البارد، تحققت مخاوف الاهالي، وتحولت الفرصة الى كابوس: لعلماء الآثار اولاً لما جرى من تلاعب بقراراتهم العلمية، ولسكان المخيم ثانياً بسبب التأخير في إعادتهم الى بيوتهم بحجة المكتشفات الاثرية.
وأرتوزيا موقع أثري هام، كان له ان يكون بضخامة آثار مدينة صور. فهي مدينة رومانية وبيزنطية على طريق القوافل، كانت لها مكانتها التجارية والسياسية، لدرجة انها صكّت عملتها الخاصة التي تصور معبداً للالهة عشتروت مشيداً بداخلها. وبدأت المديرية العامة للآثار تشرف على عمليات الكشف على الموقع، فتبين من اول الف متر مربع، أن المدينة مزودة بقناة جرّ لمياه الشفة، الأمر الذي يؤكد اتساع المدينة. لكن، لم يدم العمل الميداني العلمي طويلاً، فما أن انتشر خبر الحفريات الاثرية حتى قامت الساحة السياسية بأهلها ولم تقعد. حتى ان المدافعين عن حقوق سكان البارد تظاهروا ضد أرتوزيا، محملين علماء الآثار التأخير في عملية إعادة المهجرين.
وبدأ التجاذب السياسي. في نيسان 2009 حيث طلبت رئاسة مجلس الوزراء من وزارة الثقافة ان تبحث عن حل جذري يسمح بإعادة اللاجئين الى مكان سكنهم الاول دون أي تغيير. بدا الطلب غريباً لأن علماء الآثار اقترحوا على مجلس الوزراء شراء الاراضي الزراعية المحيطة بالتل ونقل المخيم اليها، وترك علماء الآثار ينجزون ما بدأوه، والعمل على كشف معالم ارتوزيا لتصبح معلماً اثراً وسياحياً في عكار.، فأتى الرفض للاقتراح صارماً من مكتب رئاسة مجلس الوزراء، بحجة ان الرئيس السنيورة «وعد» اللجان الفلسطينية بأنهم سيعودون الى بيوتهم، وهذا ما سيحصل!
وطرحت وزارة الثقافة حينها «حلاً» غريباً يقضي بالكشف على الآثار وتسجيلها، ومن ثم طمرها بالتراب وبالاسمنت بسماكة 30 الى 50 سنتيمتراً لتشيد الابنية فوقها.
قرار طمر الآثار معترف به عالمياً كتقنية للمحافظة على المعالم حينما تكون بخطر. فيتم وضع قماش مقاوم للزمن لعزل الآثار عن المستوى الحديث، ومن ثم تغطى المكتشفات بالرمال، او الاتربة. ويعتمد الطمر لغرف، او ارضية فسيفساء. اي لجزء من المكتشفات الاثرية، لكنها المرة الاولى في العالم التي يتم فيها طمر موقع اثري بأكمله! فالسياسة اللبنانية تفرض اساليب جديدة على علم الآثار. ولم تتوقف الازمات عند هذه الحالة، بل تقدم المواطن (وليس رئيس كتلة نيابية او النائب) ميشال عون بأول دعوى قضائية امام مجلس شورى الدولة يطلب «مراجعة» قرار مجلس الوزراء بطمر الآثار في نهر البارد، تمهيداً لإبطاله. بحسب طلب الدعوى، المواطن عون يطالب بالمحافظة على آثار البارد لأنها مهمة للبنان اولاً وللبشرية ثانياً، فرفض مجلس شورى الدولة الطلب الطعن لأن الصفة/ المصلحة غير مباشرة، اي انه ليس للمواطن ميشال عون مصلحة مباشرة في قرار مجلس الوزراء لانه لا يطال مصالحه الشخصية!
ادخلت هذه المناورة السياسية بامتياز ملف آثار ارتوزيا في متاهات لم تكن بتصورها احد. بعض الاطراف السياسية اعتبرت ان الفلسطينيين الذين «كانوا السبب في اندلاع الحرب الاهلية» حسب ادعائهم، هم اليوم سبب خسارة موقع اثري. وأتت ردة الفعل الفلسطينية لتؤكد ان الملف زاد شعورهم بأن الحفاظ على الاثار اهم منهم، فصرح احد مسؤلي إعمار المخيم بأن «أرتوزيا انتظرت الفي سنة، ويمكنها ان تنتظر قليلاً بعد حتى نعود الى فلسطين». كأنما وجودهم مع ارتوزيا من المستحيلات، تماماً كما أراد السياسيون.
علماء الآثار يحاولون ومنذ بدء الاكتشاف، تحييد عملهم عن الملفات السياسية الساخنة، هكذا، لم يتركوا الموقع يوماً. بقيت مهامهم تنجز بصمت وبعيداً عن الاعلام لكي لا يسيس عملهم اكثر من ذلك.
في المناطق التي رفعت فيها الانقاض وظهرت فيها، يأتون يصورون، يوثقون، ويطمرون. وفي الرقعات التي لم يكشف عن باطنها يعملون على مسح جيوفيزيائي للسطح يظهر المعالم الاثرية المطورة، فيوثقون ويبتعدون لتأتي جرافات البناء التي لم يقفوا يوماً عائقاً امامها، رغم ما صور عنهم.