... وهذه أيضاً عربة أطفال.
قد تكون الخامسة التي نراها مرمية في الطريق من قلعة تدمر، إلى وسط المدينة. ماذا تفعل عربات الأطفال هنا؟ نسأل، فتأتي الإجابة أقرب إلى التكهن: «يحمل عليها العسكر أغراضهم».
وما هي هذه الأغراض التي تتسّع لها كرسي طفل رضيع، ويحتاج إليها عسكري؟ هذه المرة لا نسأل، بل نحاول أن نحزر ونحن ننظر إلى العربة المركونة أسفل قلعة تدمر، فيما تدور دجاجة حمراء حولها.
لا أحد هنا مهتم بالدجاجة، وسط زحمة القادمين إلى القلعة. كلّهم جاؤوا ليشهدوا على تحرير المدينة بعد عشرة أشهر من سيطرة تنظيم «داعش» عليها. تحرير له طعم مختلف، بسبب «القيمة» التي يوليها العالم الغربي لمدينة تدمر. القلعة متضرّرة بعض الشيء بفعل القصف الذي تعرّضت له، ما يعوّق الدخول إليها. لكن يمكن الإطلالة منها على المدينة الأثرية، التي لا تزال أعمدتها ترتفع راسمة الطريق من مدافنها، إلى معبد بل، وبينهما المدرج الروماني.
تصعب السيطرة على المشاعر أمام مشهد مماثل، وتصبح الطريق التي تفصل القلعة عن المدينة أطول من تلك التي قطعت من بيروت إلى حمص. لا يحول الدخان الأسود، المتصاعد من تفجير العبوات الناسفة التي زرعها «داعش» في كلّ مكان تقريباً، دون المخاطرة. نسير على «دعسات» السيارات التي سبقتنا، يقول السائق ضاحكاً، فيما تطير بنا سيارته فوق أحد المطبات، فيملأ رمل الصحراء الذي يغطي سيارته عيوننا. يضحك أكثر، وهو يقفز فوق مطبّ ثانٍ قبل أن يخبرنا بهدوء: «في أحيان كثيرة تخفي هذه المطبات عبوات ناسفة». ويدلّ بأصبعه إلى أكثر من حفرة خلّفها تفجير العبوات في وسط المدينة.
كانت المدينة خالية من المدنيين ولم يبق فيها إلا أشجار النخيل والأعمدة

نوقف السيارة في ساحة يتوسطها عمود حجري، اعتقدنا بداية أنه هو الذي علّق عليه عالم الآثار خالد الأسعد في شهر آب الفائت، بعد إعدامه. كان لهذا الاعتقاد وقعه في نفوسنا. ننزل بخفر من السيارة، ونحن لا نصدّق أننا في المكان نفسه الذي شهد تلك الجريمة. ولا يزول هذا الإحساس، حتى بعدما نعرف أنه علّق على عمود كهربائي في مكان آخر. فالمدينة كلّها شهدت جرائم مختلفة، وارتكابات مؤلمة بحق أهل المدينة الذين هجروها. منهم من فعل ذلك قبل دخول «داعش» وفي خلاله. ومنهم من لحق بـ«داعش» في المعركة الأخيرة. والنتيجة واحدة، نحن في مدينة مهجورة. لا يوجد فيها مدني واحد قادر على إخبارنا بشيء، رغم أنها كانت تحتضن نحو 75 ألف نسمة سابقاً، بقي منهم تحت سيطرة «داعش» قرابة 15 ألفاً.
لم يبقَ إلا أشجار النخيل، والأعمدة. ووسط هذا الفراغ، لا تعود المقارنة صعبة بين مدينتين غير مأهولتين... ترى أيّهما المدينة التاريخية: تلك صاحبة الأعمدة الصفراء؟ أم هذه، صاحبة المباني السكنية التي تحمّل أرقاماً كتبت بالأسود؟
الوفود الصحافية التي تكمل سيرها باتجاه المدينة الأثرية تتكفّل بالجواب. أما هنا، فلا شيء يثير اهتمامهم.
الحفر تملأ الطريق، التي يتوسطها رصيف... كان جميلاً. رائحة البارود تملأ المكان، وكذلك اللون الأسود الذي يتصاعد من أكثر من مكان. ترتفع عيوننا معه، فنقع على جدران مفتوحة لبيوت لم تستطع المحافظة على أسرار أهلها. أسرّة وكنبات، ولوحات ومكتبات وطناجر و... كلّها أطلّت برؤوسها من الجدران المبقورة، لتقول: كانوا هنا.
كان هنا طفل، حاز شهادة تقدير من مدرسته، فاحتفظ بها تحت فرشة الكنبة الزيتية في غرفة الجلوس. أما في غرفة النوم، فـ«روشتة» امتحان طويلة، ومكتوبة بعناية وبألوان مختلفة، تضحكنا، نحن الذين نتنقل بين غرف البيت بخجل، وشعور ثقيل بالعار لأننا نتلصّص على حياة أناس لم يعودوا هنا ليمنعونا... أو ليقدّموا لنا كوب ماء بعد رحلة سفر طويلة.
من تكون سيدة البيت التي رتّبت فناجين القهوة بهذا الشكل الجميل؟ وماذا كانت تعدّ من طعام، قبل أن تغادر على عجل تاركة «مرطبان» الكبيس الزهري على المجلى الرخامي؟ وأيّ شريط كاسيت كانت تسمع ابنتها، «جزء عمّ» أم راشد الماجد؟ هل أبكاها «سي دي» هاني شاكر كثيراً؟ أم أن الكتاب الديني الجديد، الذي يحمل شعار «داعش»، حماها من تجربة مراهقة حزينة؟
لا أحد هنا ليجيب عن كلّ هذه الأسئلة، ولا عن السؤال الأصعب الذي واجهناه عند مرورنا بمقبرة المدينة المجروفة. لم جرفوها؟ وكيف سيعرف أبناء المدينة قبور أهاليهم عندما يعودون؟
امتحان صعب، سيعجز حتى صاحب البيت الذي تدلّ كتبه على أنه مدرّس، عن حلّه. تراه وضع طلابه يوماً أمام معادلة بهذه الصعوبة. هل سيخبرهم بعد عودته أن تاريخ تدمر يجب أن يكتب مجدداً؟ وأن زنوبيا ليست القصة الوحيدة التي تستحق أن تروى؟
تراه عرف ذلك، فرمى الكتاب المصوّر عن آثار مدينته بعيداً عن البيت؟
نجد الكتاب على الرصيف أسفل الشرفة، وإلى جانبه عربة أطفال سادسة. نحمله معنا إلى متحف تدمر الذي قطعت رؤوس تماثيله، ومن ثم إلى المدينة الأثرية التي نخضعها للمقارنات بين قبل وبعد. وعندما نصل إلى المدرج الروماني، نخفّف الوطء.
«باقية وتتمدّد» كتبوا على أحد جدران المدرج الروماني، وطلبوا المغفرة لأحدهم. وكذلك فعلوا على جدار آخر. وبين الجدارين، نفذوا جريمتهم على مرأى العشرات.
هنا أعدموا. هنا حيث صدحت أصوات المطربين مراراً. وها نحن نقف تماماً حيث كانوا. الضحايا الذين رحلوا، والضحايا من الأطفال الذين أطلقوا النار على ستة وعشرين شخصاً.
لا آثار للدماء في المكان، لكن رائحة بشعة تنبعث على بعد أمتار من حفرة، تدلّ عليها أسراب من الذباب الكبير الحجم. قد تكون هذه مقبرة جماعية، وقد تكون فردية. لم نستطع أن نعرف. كلّ ما استطعنا أن نعرفه في خلال هذه الزيارة القصيرة أن الحرب وحدها هي القادرة على تحويل عربة طفل إلى وسيلة نقل لمسلّحين. وأن التاريخ حين يكتب، يمحو قصصاً كثيرة تبدأ مع طفل كان يجلس في عربة، وفتى حرص على جمع شهادات التقدير، ولا تنتهي مع مسنّ أعدم لأنه أمضى حياته يحافظ على... التاريخ.